دعا وزير الثقافة القاضي محمد المرتضى إلى أن “نرتفع عن سطح مصالحنا كارتفاع بشعلة عن سطح البحر، وأن نحتضن الحقيقة في بيئة من العدالة الناصعة النقية غير المشوبة بالإستنسابية أو بالإفتراء أو بالتحامل أو بالتسييس، كاحتضان بشعلة زيتونها في هذا الجيب المناخي الخاص، لكي يسكن في قلوبنا وأعمالنا سلام الزيتون وتفيض خيراته علينا وتنتشر بركاته فينا، فنستحق هذا الوطن الذي عمره المقروء يجاور عمر زيتوناتكم. وتوجه الى السفيرة الاميركية دوروثي شيا بالقول: “العطاء الحق هو الذي لا غرضية من ورائه او تمنين”.
كلام المرتضى جاء خلال رعايته اللقاء الاحتفالي الذي نظمته اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو وبلدية بشعله، في اليوم العالمي لشجرة الزيتون، وحضره السفيرة الأميركية شيا، المدير العام للآثار المهندس سركيس خوري، قائمقام البترون روجيه طوبيا، الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو تالا زين، عضو مكتب اليونيسكو الإقليمي الأستاذ جو كريدي، رئيس بلدية بشعله رشيد جعجع وأعضاء المجلس البلدي، ممثلون عن الهيئات المانحة، رؤساء بلديات ومخاتير، فاعليات البلدة وعدد من الخبراء والاختصاصيين اضافة الى أهالي البلدة ومدعوين.
وبدأ يوم شجرة الزيتون في بشعله بجولة للتعرف على الزيتون ومنتجاته مع فريق دروب بشعله فزيارة بستان الزيتونات المعمرة وشرح عن تاريخها والتقاط الصور التذكارية. وبعد تذوق زيت الزيتون، عقد لقاء في بلدية بشعله.
وقال مرتضى: “في سفر القضاة من العهد القديم، أن الأشجار ذهبت لتمسح عليها ملكا منها، فأتت أولا إلى الزيتونة وقالت لها: “املكي علينا”، فرفضت الزيتونة وأجابت: “أأترك زيتي الذي به يكرمون بي الله والناس، وأذهب لكي أملك على الأشجار”. هذه الحكاية المثل، ولئن جاءت في سياق معين رمى إليه كاتبها، تترك لقارئيها أن يؤولوها على وجوه عديدة، من أهمها أن العطاء يفوق الملك قدرا، وأن السلطة من دونه لا قيمة لها. هكذا على الرغم من رفضها أن تمسح مليكة، لبست شجرة الزيتون تاج عطاء ولا أجزل، به يتقدس الناس وبه يكرمون الله. من هنا يصح السؤال: كيف يكون للزيتون عيد وهو عيد الخليقة والأشجار والحقول والموائد؟ أيقام له يوم واحد من ثلاثمئة وخمسة وستين، وله العصور كلها ما دون منها التاريخ وما لم يدون؟”.
وتابع: “غصن الزيتون رمز السلام، منذ جدنا نوح وفلكه وقوس قزحه، وشجرة الزيتون تامة الفائدة حتى الكمال، ليس في جناها وحطبها سدى لا ينتفع به. والله أقسم بها في محكم التنزيل: “والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين”، وضرب بها مثلا عندما قال: “الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكواة فيها مصباح، المصباح فى زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء”. وضربها مثلا في كتبه المقدسة فشجرة الزيتون حاضرة بشكل قوي في ذاكرة الكتاب المقدس، سواء في عهديه القديم أوالجديد، حيث نجد لها مكانة خاصة في كل سفر من أسفار الكتاب. فسفر التكوين مثلا، يضعنا أمام نهاية الطوفان مع نوح، من خلال علامة حسية ألا وهي ورقة زيتون حملتها حمامة الى السفينة دلالة على أن الطوفان ماض في الإنحسار. وفي المزامير ورد أن الزيتون علامة الحياة الخالدة، وعلامة الشعب السائر مع الله، وبركة العائلة، فالله يبارك الرجل والمرأة، إذ يجعل الأولاد “مثل غروس الزيتون حول مائدتك” (مز128: 3)”.
وتابع: “وفي العهد الجديد، للزيتون ألف حكاية: التحضيرات للشعانين إنطلقت من جبل الزيتون (ر.ا، مت21: 1). وهناك في جبل الزيتون تكلم المسيح على خراب الهيكل (ر.ا، مت24: 3)؛ وفي بستان الزيتون صلى المسيح ليبعد عنه الكأس، وهناك قبل إرادة الله ومشيئته (ر.ا، 26: 39)، ومكانة بستان الزيتون مفضلة جدا عند المسيح، فكان كمنزله “وكان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون. ” (لو21: 37).”
وتوجه وزير الثقافة إلى المسيحيين بالقول: “تؤمنون أن المسيح صلب ومات على الصليب، وأنه بعد موته دفن في قبر في بستان الزيتون “لم يوضع فيه أحد قط” (يو19: 41) كما تؤمنون أنه هناك في البستان قام من بين الأموات، وانطلقت بشارة الخلود. وضمن السياق عينه وعلى الجبل عينه الذي يدعى بجبل الزيتون صعد من الموت الى السماء (ر.ا،أع 1: 11) ووعد تلاميذه بالروح القدس”.
وأكد أن “الزيتونة في زيتها الشفاء والضياء، وهي السلعة التجارية القديمة التي رافقت الحضارات وسلكت سبل المواصلات ومتنت الأواصر بين الشعوب. أقوال جميلة وحقائق ثابتة حفظها الناس من قديم، وتداولتها الألسنة جيلا بعد جيل. لكن، بمقدار ما يحسن بنا ذكرها في هذا المقام يحسن أيضا الحديث في الجانب الثقافي الذي كان لشجرة الزيتون في بلادنا، وهو بلا شك من الجوانب الجديرة بالدراسة المعمقة. ذلك أن العلماء متفقون على اعتبار الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط الموطن الأصلي التاريخي لشجرة الزيتون. وهكذا تكون بلادنا أول عنوان في الأرض لهذه الشجرة”.
وأردف: “وفي هذا المجال، يجدر لفت النظر إلى دخول الزيتون ومواسمه المباركة موضوعا أساسيا من موضوعات التراث اللبناني، الذي اختزن تاريخا كاملا من أحداث وعادات وتقاليد رافقت هذه الشجرة زراعة وعناية وحملا وقطافا وعصرا وتنوع إنتاج، حتى كانت محور حياة الفلاح اللبناني الذي اتخذ زراعة الزيتون والاهتمام به طراز معيشة ونمط حياة، في المناطق التي زرعها فيها، وهي منتشرة على امتداد مساحة لبنان. إنها ثقافة كاملة المعالم في التعاطي مع الزيتونة، اتخذت في أحيان كثيرة طابع القدسية الذي يتجلى خصوصا في مبادرة القرويين إلى تقديم شجرة زيتون معينة في أرض يملكونها، وقفا أبديا إلى مقام ديني ما، وهذا يسميه القانون عندنا “الحق السطحي”، علما أنه لم تسجل هبة على هذا النحو شجرة تين أو لوز أو كرمة أو حتى أرز أو صنوبر أو سوى ذلك من الأشجار الحرجية والمثمرة، بحيث استأثرت الزيتونة وحدها بهذا الارتباط بالمقدس. ظاهرة جديرة بالدراسة لاكتناه أسرارها ومرجعياتها الإيمانية والثقافية لدى شعبنا منذ فجر الحضارات إلى الآن”.
وقال: “أما الدور الذي لعبته شجرة الزيتون في نشر العلم بين أبناء الفلاحين منذ أوائل القرن الماضي، فواضح لا لبس فيه. لقد كان لهذه الشجرة المباركة، بما تفيض به من تنوع خيرات تستخرج من ثمارها، أن تشكل مورد رزق يتجاوز الكفاف إلى بعض ثروة مكنت المزارعين من الإنفاق على أولادهم في المدارس والجامعات الوطنية والأجنبية، فكان أن اتسعت بفضلها دائرة المتعلمين ذوي الاختصاص في مجتمعات كانت يومذاك ترزح تحت وطأة الأمية، حتى إن كثيرين يعترفون بأن زيت الزيتون في لبنان لم يكن ضوء القناديل فحسب، بل ضوء العقول أيضا”.
وتابع: “ويبقى علي في الميدان الثقافي أن أشير إلى أن الزيتون يشكل عندنا ثروة وطنية تاريخية حقيقية. مثال ذلك زيتونات بشعلة الست عشرة التي يعود عمرها إلى ستة آلاف عام، والتي لو حكت لحدثت عما كابدت من صروف الزمن، وعن الوجوه التي استظلت بها، والزنود التي امتدت إلى أغصانها، وعن الحروب والاتفاقات والمناسبات الحزينة والسعيدة التي شهدتها، ولكان لنا حينذاك تاريخ موثق بشهادة مقدسة عن أشياء كثيرة نتخيلها ولا نعلمها علم اليقين. هذا يلقي على عاتق الدولة بسلطاتها المركزية والمحلية واجب تعهد هذه الشجرات بالدراسة العلمية المتخصصة، والعناية المشددة. وأنا من هنا، ومن موقعي الوزاري أتعهد بالعمل على إدخال هذه الأشجار ضمن برنامج مواقع التراث العالمي للأونيسكو، نظرا لأهميتها التاريخية الفريدة”.
وختم: “في هذا الجو الطبيعي المفعم بالهدوء والسلام، في حضن هذه البلدة التي تعلو عن سطح البحر ألفا وأربعمئة متر، والتي احتضنت زيتونها في ارتفاع لا يصلح عادة سكنا لهذه الشجرة، لا أريد أن أنغص عيدكم بالكلام السياسي، أو بالحديث في أزماتنا المتراكمة. فإننا جديرون بساعة من الفرح، أو بدقائق من نسيان مؤقت للويلات النازلة بنا. لكن بحسبي أن أخاطب اللبنانيين من ههنا بالقول: علينا جميعا أن نرتفع عن سطح مصالحنا كارتفاع بشعلة عن سطح البحر، وأن نحتضن الحقيقة في بيئة من العدالة الناصعة النقية غير المشوبة بالإستنسابية أو بالإفتراء أو بالتحامل أو بالتسييس، كاحتضان بشعلة زيتونها في هذا الجيب المناخي الخاص، لكي يسكن في قلوبنا وأعمالنا سلام الزيتون وتفيض خيراته علينا وتنتشر بركاته فينا، فنستحق هذا الوطن الذي عمره المقروء يجاور عمر زيتوناتكم”.
بعدها، ألقت السفيرة شيا كلمة بالمناسبة.
كما رحب جعجع في كلمة بالحضور في بلدة الزيتون المعمر، وقال: “في 26 تشرين الثاني 2021 تحقق الحلم. ليس غريبا ان تحتفل اليونيسكو باليوم العالمي لشجرة الزيتون للمرة الاولى في لبنان بين أحضان شجرات زيتون بشعله المعمرة”.
وأضاف: “ليس غريبا إن نكون كلنا مجموعين لنرد حقا ونشكر أجدادنا الذين حافظوا على هذه الشجرات على مر العصور وتركوا لنا تاريخا مخبأ بين أغصانها. ليس غريبا ان نكون مجموعين من كل لبنان لنحتفل معا بهذا العيد. لكن الغريب الا نكون واعين لهذا الارث الذي ورثناه من أجدادنا ونتحرك متل خلية النحل متحدين كلنا معا لنحافظ عليه لنورثه لأحفادنا. منذ تسلمنا المجلس البلدي كان محور كل مشاريعنا وأهدافنا هو حماية هذا الزيتون المعمر. بالشراكة مع الجمعيات والمؤسسات المحلية وعلى رأسها وقف مار اسطفان وجمعية بشعله للتنمية والجمعية الخيرية البشعلانية في بيروت وفي لوس انجلس ومع النادي الثقافي الرياضي والتعاونية الزراعية والوزارات ومؤسسات الدولة والمؤسسات المانحة على راسها الـUSAID التي شرفتنا اليوم بحضورها”.
وتابع: “خططنا وعملنا لهدف واحد “بشعله خضراء 2030″. لمن لا يعلم نخبره ولمن لا يتذكر نذكره بمشروع تخزين الطاقة الشمسية وتوزيع كهرباء للبيوت والشوارع، هدفنا الأول حماية الزيتونات من التلوث الهوائي والسمعي من خلال انعدام المولدات الكهربائية في البلدة. كما نذكر بمشروع الصرف الصحي ومحطة التكرير الخاصة ببشعله ضمن مشروع CSP الممول من USAID بهدف حماية جذور هذه الشجرات من التلوث. وكذلك نذكر بمشروع تكملة طريق ترتج- بشعله- تنورين وهدفنا تحوير الطريق عن الزيتون لحماية الشجرات من التلوث الصادر عن انبعاثات الغازات السامة من السيارات، لكن للأسف غادر المتعهد في نهاية ال 2019 وتوقف المشروع بسبب افلاس الدولة. كما اننا بالتعاون مع مؤسسات وجامعات وطنية وعالمية ومهندسين وفنانين من لبنان والعالم وضعت دراسات وأبحاث واعدت ريبورتاجات وفيديواات فنية وعلمية وثقافية تجسد عراقة هذه الشجرات وصلابتها وصموده وقداستها”.
وقال: “تكمن اهمية هذه الزيتونات عندما حددنا عمرها مع ال USAID ضمن مشروع دروب بشعله الذي عزز السياحة الريفية وازداد الزوار عليها، ووضعنا امام تحد كبير إنه بامكاننا حمايتها من خلال تطبيق شروط السياحة المستدامة.التدهور المناخي الحاصل نتيجة الإحتباس الحراري على صعيد العالم يشكل كذلك تهديدا كبيرا لصمود هذه الزيتونات. هذه التحديات تدعونا لان نخطط بجدية ومسؤولية للحفاظ على هذه البركة”.
وختم: “في هذا الإحتفال ننتهز الفرصة التي جمعتنا لنطلق معا صرخة من القلب للقلب: حان الوقت لنتوج زيتون بشعله الأثري إرثا وطنيا وثقافيا للانسانية”.
وكانت كلمة لممثلة الاونيسكو زين قالت فيها: “الملفت اليوم أن هذا الإحتفال يجري في ظل ظروف صعبة يمر بها لبنان، واهتمام المسؤولين والخبراء والبلديات يعكس بشكل أو بآخر إصرار اللبنانيين الذي يشبه تماما إصرار شجرة الزيتون الأثرية الموجودة هنا في بلدة بشعله”.
وأضافت: “نحن اليوم بصدد الإحتفال باليوم العالمي لشجرة الزيتون الذي أقر من قبل منظمة الأونيسكو بعد إقتراح كل من دولتي لبنان وتونس، وها نحن اليوم نحتفل لأول مرة بهذا اليوم لأننا عاهدنا الإحتفال بالأيام العالمية لمنظمة الأونيسكو من بلدة بشعله، آملين أن تكون انطلاقة لتسجيل الزيتون على القائمة العالمية للتراث غير المادي أو الطبيعي، كما سجل من قبلها “الزجل”، ونحن في صدد تسجيل الخط العربي. اما لماذا الإحتفال بشجرة الزيتون ولماذا من بلدة بشعله؟ سأبدأ الإجابة بجزء من كلمة المديرة العامة أودري أغليه التي اعتبرت أن شجرة الزيتون المحيطة بالمركز الرئيسي لمنظمة الأونيسكو في باريس على انها الشجرة التي تذكرهم دائما بالإلتزامات التي تقع على عاتق هذه المنظمة وتذكرهم دائما بسبب وجودها، واعتبرت أن هذه الشجرة ثابتة ومتجذرة في أرضها، لا تنحني ولا تزول، بل مستمرة من العصور الوسطى حتى يومنا هذا، وهنا تكمن رمزيتها، لما تمثله من عنصر إستدامة، هي رمز السلام والأمل والإستدامة البيئية، وهي خير دليل على أهمية التراث الطبيعي وغير المادي للشعوب والأوطان”.
وتابعت: “هذه الشجرة هي أهم عناصر التنمية الثقافية والاجتماعية والبيئية والإقتصادية، وها نحن اليوم في بلدة بشعله نشهد على هذا الشجر المعمر الأثري الذي يعود لأكثر من 2050 عاما ويتمتع بمواصفات خاصة ومميزة. وفي هذا الصدد أوجه الشكر الى بلدية بشعله والى فريق العمل، وعلى رأسها الأستاذ رشيد جعجع على الحماس والجهد الذي أبدوه من أجل تنظيم هذا الإحتفال، ولفريق “دروب بشعله على هذه الجولة المفيدة ثقافيا وإجتماعيا، والشكر موصول لمعالي وزير الثقافة لرعايته وحضوره وتشجيعه للجنة الوطنية اللبنانية”.
بعد ذلك كانت محاضرة لخبيرة اليونسكو آني تابت عن “شجرة الزيتون وارتباطها بالتراث الثقافي غير المادي”.