كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
لعلّ أخطر ما يواجه لبنان لا ينحصر بـ”السقوط الحرّ” الذي يشهده، إنّما أيضاً بلجوء من في السلطة إلى بيع “الوهم”. آخر تجلّيات هذه الصفقة تمثّل في إطلاق المسؤولين وعوداً بإيجاد أسواق بديلة عن الدول الخليجية لتصريف الإنتاج الصناعي والزراعي. ومن هذه الأسواق الموعودة تأتي تركيا ودول شمال أفريقيا في الصدارة.
في الوقت الذي ستعمل فيه تركيا على تقليل فاتورة الواردات، من ضمن حزمة السياسات الاقتصادية لمواكبة قرار الرئيس التركي تخفيض أسعار الفائدة، ما زال وزراء الاقتصاد والزراعة يعدون بفتح الاسواق التركية أمام المنتجات اللبنانية كبديل عن الأسواق الخليجية، عملاً بالمثل القائل “يطعمك الحج والناس راجعة”. فعدا عن ارتفاع القدرة التنافسية للبضائع التركية نتيجة انخفاض قيمة الليرة التركية فان العلاقات التجارية بين الدول تتطلب المعاملة بالمثل. خصوصاً إن كانت الدولة المصدّرة عاجزة عن فرض شروطها بسبب ثقلها السياسي من جهة، وعدم فرادة منتجاتها بالجودة والنوعية والأسعار من الجهة الثانية. وهذا ما ينطبق على لبنان. فالتسليم جدلاً بفتح الأسواق التركية أمام المنتجات اللبنانية يحتم علينا عدم وضع أي قيود أو عوائق جمركية على البضائع التركية. وإذا ما وضعنا هذه المعادلة في الميزان التجاري نلاحظ رجاحة الكفة لمصلحة تركيا. فالأخيرة سترفع من صادراتها، البالغة في العام 2020 حوالى 800 مليون دولار، وتغرق الاسواق المحلية ببضائعها المدعومة الأكلاف التصديرية، والمستفيدة من تراجع العملة إلى 12 ليرة مقابل الدولار. وتكون النتيجة، مضاربة الصناعة الوطنية في عقر دارها، وفي السوق الأكبر لتصريف منتجاتها الذي يستهلك سنوياً نحو 10 مليارات دولار.
منافسة غير عادلة
هذا الواقع انتبه له وزير الاقتصاد السابق رائد خوري. فحث مجلس الوزراء في أيار 2018 على اتخاذ قرار بمنع إدخال سلعتي البسكويت “الويفر” ومواد التنظيف من تركيا. القرار الجريء الذي لاقى تأييد الصناعيين واعتراض السياسيين في الداخل والخارج اتى بحسب رائد خوري في حديث خاص لـ”نداء الوطن”، من أجل “حماية قطاعات كبيرة وأساسية من الصناعة الوطنية من الإقفال، نتيجة المنافسة غير المشروعة التي تتعرض لها من البضائع التركية المماثلة. فهذه البضائع كانت تباع في لبنان أرخص مما تباع في تركيا بسبب سياسة الإغراق Dumping التي تعتمدها تركيا. والتي لا تلبث في العادة أن تعيد رفع أسعارها بعد القضاء على السلع المنافسة. الأمر الذي لا يحرم شعوب الدول بعد فترة من السلع المستوردة الرخيصة فحسب، إنما يقضي على الصناعة الوطنية التي ترفع الناتج وتخلق فرص العمل”. وبالفعل ازدهرت صناعتا “البسكويت” ومواد التنظيف في الفترة اللاحقة لاصدار القرار، مما رفع انتاجيتها، وساهم بتوسّعها وتوظيف المزيد من القوى العاملة.
لا مصلحة لتركيا بالمنتجات اللبنانية
لم يكن الهدف من تطبيق القرار وقتذاك استمراره للأبد، إنما الضغط على تركيا من أجل تحسين كمية ونوعية صادرات لبنان إليها. فعدا عن أن حجم الصادرات اللبنانية إلى تركيا بلغ 119 مليون دولار في العام 2017 مقابل واردات بقيمة 777 مليوناً، فان نوعية السلع المستوردة من لبنان تقتصر على الخردة. وقد أبلغ خوري الجانب التركي، الذي اعتبر العمل عدائياً، وأن المطلوب لعودة العلاقات التجارية إلى سابق عهدها أمران:
الأول، وقف سياسة الإغراق المنتهجة.
الثاني، التوقف عن التحجج بان لا مصلحة لتركيا في أي من المنتجات اللبنانية، والاتفاق سوياً على سلة من السلع يوردها لبنان من أجل تحسين وضع الميزان التجاري بين الدولتين.
وبالفعل أتى وفد من وزارة الاقتصاد التركية إلى لبنان واجتمع مع فريق عمل وزارة الاقتصاد اللبنانية لتعزيز التعاون المشترك، إنما لم تلبث هذه العلاقة أن انقطعت والغى الوزير الذي أعقب خوري (منصور بطيش) العمل بالقرار نتيجة الضغوطات السياسية بعد تعيين حكومة جديدة. وعاد العجز في الميزان التجاري بين لبنان وتركيا في العام 2019 ليحلق، متجاوزاً 878 مليون دولار. حيث بلغت الواردات اللبنانية من تركيا حوالى 940 مليون دولار، في حين لم تتجاوز الصادرات اللبنانية اليها 62 مليوناً في ذلك العام. وبحسب خوري فان “تركيا هي مثال عن العلاقات المختلة على الصعيد التجاري وليست الدولة الوحيدة”. وعليه من واجب لبنان برأيه أن “يؤمن مصلحته أولاً قبل أن يراعي ظروف بقية هذه الدول. خصوصاً إن لم تكن تربطنا معهم إتفاقيات ومعاهدات تجارية.
البدائل عن الأسواق الخليجية غير مشجعة
الخلل في العلاقة التجارية بين لبنان وتركيا عاد إلى سابق عهده مع حكومتي سعد الحريري (2019) وحسان دياب (2020). ومن المتوقع أن تزيد صادراتها هذا العام وتتراجع وارداتها. فبالاضافة إلى زيادة الاستثمارات في تركيا وانخفاض كلفة الانتاج، فان الهدف رفع صادراتها إلى 200 مليار دولار في نهاية العام 2021. ولا يذكر خوري أن “أحداً اتخذ قراراً لتحسين هذه العلاقة. فالمطلوب لخلق أسواق تصديرية واعدة ومفيدة للانتاج الوطني يتخطى إعلان حسن النية، والتعهد بالعمل الايجابي، ويتصل بعقد الاتفاقيات التجارية. إنما المشكلة أن “خلق هذا النوع من الروابط يتطلب الكثير من الوقت والمباحثات والتفاوض وموافقة السلطتين التنفيذية والتشريعية”، يقول خوري. و”هو ليس بالسهولة التي يظنها البعض بالنظر إلى الاجراءات البيروقراطية الكثيرة التي يتطلبها. ويذكر أنه لم يستطع استكمال العديد من الاتفاقيات التجارية التي عمل عليها مع فريقه لمدة عامين لما تتطلبه من وقت”. كما ان نقاط ضعف لبنان عدم احترام الاستمرارية بالعمل وغياب استراتيجية واضحة من قبل الدولة. فالوزير الجديد يلغي قرارات الوزير الذي سبقه ويبدأ من نقطة الصفر. في حين من المطلوب أن يكون هناك تتابع في العمل على قاعدة أن الحكم استمرارية.
البدائل المطروحة عن الاسواق الخليجية لتصدير الانتاج اللبناني غير مشجعة. فلبنان مثلاً كان يستورد من أوروبا نحو 40 في المئة من بضائعه ولا يصدر إليها في المقابل إلا بضائع بمئات الملايين من الدولارات. وهي تفرض بحسب خوري “عوائق مصطنعة كثيرة، منها: اشتراط وجود هيئة مستقلة لجودة الطعام، ورفض قاطع من إسبانيا وإيطاليا لتصدير الملبوسات والاحذية. وقد اقترح خوري لتحسين وضع الميزان التجاري مع الدول الأوروبية تعليق الاتفاقيات التجارية معها لانها لا تعود باي فائدة على لبنان. خصوصاً ان هناك بنداً يسمح بوقف العمل بالاتفاقيات إذا كان البلد يواجه وضعاً اقتصادياً صعباً. وليس هناك أصعب من واقع يصدر فيه لبنان 300 مليون دولار ويستورد 7 مليارات”. أما بالنسبة إلى دول شمال افريقيا وتحديداً منها دول المغرب العربي (الجزائر، تونس، المغرب) فهي تفرض رسوماً تفوق نسبتها 50 في المئة، وهي لا تعترف باتفاقيات التيسير العربية. في حين تحمي دول أميركا الجنوبية حيث تنتشر “الدياسبورا” اللبنانية صناعاتها بشكل كبير جداً.
بناء على التجارب السابقة يظهر أنه من غير المفيد استبدال الأسواق القديمة، وتحديداً الخليجية منها بأسواق جديدة. ولا سيما أن الميزان التجاري معها إما رابح لمصلحة لبنان كما الحال مع السعودية، أو عاجز بنسب قليلة كما الامارات. وإذا كان من الصعب الاستعاضة عن الأسواق التقليدية والقريبة من لبنان في الحالات الطبيعية.. فكيف الحال في ظل حكومة لا تجتمع ومجلس نيابي منقسم، وأزمة اقتصادية غير مسبوقة. عندها تصبح الوعود مجرد إبرٍ مخدرة تسكّن الوجع ليستفيق المريض بعد فترة على تعاظم مشكلته حتى تصبح عصية عن الحل.
فات الأوان على الدولار الجمركي
يرى وزير الاقتصاد السابق رائد خوري أن الوقت تأخر كثيراً على رفع الرسوم الجمركية من خلال رفع الدولار الجمركي. فالاستيراد تراجع إلى 11 أو 12 مليار دولار بسبب انهيار القدرة الشرائية. والأغلبية أصبحت عاجزة عن شراء السلع الفاخرة من سيارات وأدوات ومأكولات… وخلافه من المنتجات التي ترتفع عليها رسوم الجمارك، هذا من ناحية. أما من الناحية الثانية، فان الهدف الذي تنشده السلطة من وراء رفع الدولار الجمركي هو زيادة عائدات الخزينة لتمويل الفاتورة الاجتماعية، وليس التخفيف من خروج الدولار وحماية الصناعة الوطنية. فتكون بذلك تأخذ باليسار ما تعطيه في اليمين نتيجة ارتفاع الأسعار. وهذا خطأ في المبدأ أكثر مما هو خطأ في الحساب. ذلك أنه سيزيد التضخم ويحد من استفادة الخزينة من العائدات بسبب الإحجام عن الشراء وتراجع الاستيراد أكثر. خوري يعتبر أنه كان من الأجدى أخذ المطالبات والاقتراحات التي تقدم بها في العام 2018، لوضع الحواجز الجمركية على الواردات من الصين وتركيا وغيرهما من الدول المنافسة للصناعة الوطنية. الأمر الذي كان خفض تلقائياً فاتورة الاستيراد وحقق هبوطاً سلساً soft landing بدلاً من الهبوط الحاد الذي شهدناه في نهاية العام 2019. لقد كان من المهم القيام بهذه الخطوة لمواكبة السياسة النقدية القائمة على استقطاب الدولار بفوائد مرتفعة. والتي لم تكن تلبث أن تخرج من باب الإستيراد برقم ناهز 19 مليار دولار في العام 2019. وبهذا حرمنا الاقتصاد من التمويل من جهة، ولم نحافظ عل الدولارات من جهة ثانية.