كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
حتى السماء تضنّ على لبنان بخيراتها فقد شارف تشرين الثاني على نهايته ولا يزال معدل الأمطار التي تساقطت على لبنان ضئيلاً جداً مقارنة بسنوات الخير المطرية الماضية. فهل هذه ظاهرة مقلقة تنذر بشتاء جاف أم إن الله سيرحم اللبنانيين هذه السنة بشتاء أقل قسوة من المعتاد وحرارة أعلى من معدلاتها الموسمية تقيهم شر مازوت التدفئة ولهيب أسعاره؟ ام ربما الشتاء قد تأخّر لظروف مناخية غير آبه بظروفنا وسوف يقبل حاملاً إلينا كعادته عواصف ثلجية وصقيعاً ؟
بين بواحير الروم والموارنة او البواحير الشرقية والغربية يجد اللبنانيون سبباً إضافياً للخلاف، ويتنازعون مع بدء كل شتوية بين من يصيب ومن يخيب علماً أن المناخ هو واحد من أصعب العلوم وأكثرها دقة. واليوم وفي عز أزمة المازوت وارتفاع كلفة التدفئة يتشبث اللبنانيون بثنائية البواحير مضيفين إليها مطبوخ الأرمن علهم يتلمّسون كيف ستكون شتويتهم وعلى أي نار سيمضونها. ولكن ماذا يقول الخبراء في الطقس والمناخ وهل تتوافق قراءاتهم حول ما ينتظر لبنان هذا الشتاء؟
شتاؤنا بنمط جديد
جو قارح مدير موقع Weather of Lebanon ومقدم النشرة الجوية على محطة LBCI يعتبر أنه من المستحيل أن نعرف مسبقاً كيف سيكون موسم الشتاء بأكمله فالأرصاد الجوية تعطينا توقعات حتى أسبوع او عشرة أيام الى الأمام لا أكثر أما أبعد من ذلك فلا تعود التوقعات دقيقة. ولكن ما هو واضح انه حتى الآن كمية المتساقطات لا تزال أقل من المعدل رغم هطول بعض الأمطار في تشرين الأول والثاني وقد شهدت السنوات الماضية الأمر ذاته فيما كانت سنة 2018 غنية بالأمطار وفاقت المعدل. وما يمكن ملاحظته بشكل عام أن موسم الشتاء الذي يمتد عادة ما بين 60 الى 90 يوماً انخفضت فيه الأيام الماطرة، وبسبب التغيرات المناخية التي يشهدها العالم نتيجة الاحتباس الحراري، تغير نمط الشتاء عما اعتدنا عليه في الماضي وبتنا نشهد تطرفاً مناخياً من ناحية الحرارة ونمط المتساقطات، أي يمكن ان تمر فترة طويلة من الصحو يليها دفق شديد للأمطار لمدة قصيرة قد تتسبب بسيول، او قد تترافق العواصف مع انخفاض شديد في الحرارة لكنها لا تدوم طويلاً ويليها عودة الى حرارة طبيعية او فوق معدلها وقد سبق أن شهدنا درجات حرارة مرتفعة في شهر كانون الثاني… حتى هطول الثلوج تغير نمطه وبعد ان كان لبنان يشهد عواصف ثلجية سنوية تقريباً ينزل فيها الثلج الى ارتفاعات منخفضة اي ما بين 400 الى 800مترٍ لاحظنا منذ عشر سنوات تقريباً أن الثلج لم يعد يبلغ هذه الارتفاعات إلا نادراً كما أن بقاءه على القمم العالية لم يعد يستمر لفترات طويلة نتيجة الارتفاع المفاجئ في الحرارة. والأمر ذاته ينطبق على “الملاح” او الجليد الذي كانت تشهده المناطق العالية ومنطقة البقاع حيث كان عدد أيام الجليد يصل الى 40 يوماً بين كانون الأول وشباط لكن عدد أيامه انخفض في السنوات الماضية وهذا يؤثر على الحشرات والمزروعات.
تغير نمط الطقس والحراة والمتساقطات لا يعني ان لبنان مشرف على التصحّر او انه سيشهد شحاً في المياه، ورغم انخفاض معدلات الأمطار لا يمكن الحديث عن جفاف وتصحر وذلك لأن موقع لبنان بحسب ما يشرح قارح يجعله عرضة للرياح الجنوبية الغربية ولتيارات رطبة تحمل إليه الأمطار. ومنذ 1930 حتى اليوم شهد لبنان سنوات جافة كانت فيها كميات المتساقطات أقل من المعدل ولكنه شهد أيضاً سنوات كانت فيها الكميات أعلى من المعدل. فكمية المتساقطات يمكن ان تخف قليلاً في بعض السنوات فتنخفض الى أقل من 820ملم في بيروت مثلاً لكنها لا تسبب جفافاً كما يخشى اللبنانيون وفق بعض الدراسات فإن لبنان إن أحسن إدارة مياهه لا يحتاج الى أكثر من 250 الى 300 ملم من المتساقطات سنوياً.
شتوية دافئة
من الطقس الى المناخ نستطلع رأي د. طارق سلهب رئيس دائرة المناخات في مصلحة الأرصاد الجوي في مطار رفيق الحريري الدولي الذي يقول إن دائرة المناخات تعمل على توقعات موسمية بناء على دراسة المؤشرات المناخية العالمية وتأثيرها على حوض البحر المتوسط. وتتم دراسة هذه المؤشرات انطلاقاً من خط الاستواء والطاقة المكتسبة من الشمس وكيفية توزعها بعد ذاك عبر التيارات البحرية والرياح التجارية، ومحركات الطاقة هذه موجودة في المحيط الأطلسي. كذلك تعتمد المؤشرات على حركة التيارين ” النينو” و “لانينيا”. ونحن اليوم في مرحلة لانينيا التي ستستمر تأثيراتها حتى أواخر شهر شباط.
من هنا يتوقع علماء المناخ أن تحمل هذه المؤشرات إلى منطقة الشرق الأوسط التي تشمل لبنان، فلسطين، سوريا، الأردن وبعض تركيا شتاء قليل الأمطار والبرودة و لكن لا يمكن الجزم بذلك بل تكتفي الدراسات بإعطاء احتمالات تشير حالياً الى النسب التالية:
احتمال ان تكون كمية المطر قليلة وتحت المعدل هي 50% وعلى المعدل 30% أما فوق المعدل فهي فقط 20%. وتجدر الإشارة الى أن طبيعة أمطارنا هي أمطار منخفضات لذا ينبغي دوماً مراقبة مسار المنخفضات وتوزعها في أوروبا وسيبيريا وشمال الأطلسي لمعرفة متى تصل عندنا. في المدى المنظور يبدو ان هناك مرتفعاً جوياً قادماً من الشرق سيؤثر على لبنان وتركيا ويحبس الأمطار.
اما بالنسبة للحرارة فاحتمالات ان تكون فوق المعدل هي 40% وعلى المعدل 40% وتحت المعدل 20% ويمكن اعتبار السنوات التي تشير احتمالاتها الى هذه النسب من السنوات الأكثر حرارة.
وتبقى الثلوج التي يحكمها في العادة التقاء منخفض بارد مع ارتفاع عال ولكن وبحسب المؤشرات فإن ازدياد المرتفعات الجوية المترافقة مع ارتفاع في معدلات الحرارة سيساهم في إذابة الثلج بعد تساقطه ولن يجعله يدوم طويلاً كما اعتدنا سابقاً.
ويقدم الخبير في المناخ المزيد من الشروحات حول المتوقع لهذه السنة قائلاً: في وسط المتوسط منطقة تؤدي الى ولادة منخفضات جوية تسبب حدوث الأمطارعندنا لكننا هذه السنة سنشهد مرتفعات جوية تحد من وصول هذه المنخفضات المنقولة بواسطة الرياح الغربية وهذا يعني انخفاضاً في كمية الأمطار عن المعدل العام. ولكن هذا لا ينبئ بانعدام المنخفضات الجوية بل سنشهد منخفضات وأمطاراً وثلوجاً وتدنياً للحرارة لكنها لن تدوم طويلاً ويكون عدد أيام البرد الشديد قليلاً. أما بالنسبة للحرارة فإن الرياح الواصلة من المدار والمناطق الاستوائية تهبط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مولدة مرتفعات جوية ترفع الحرارة.
بعد شباط ومع انحسار تأثير المؤشرات المذكورة يقول د. طارق سلهب يمكن ان نشهد عودة للأمطار وقد تأتي منخفضات باردة لكنها لن تعوض عن كمية المتساقطات التي كان يفترض نزولها ما بين تشرين الثاني وشباط وبذلك يتوقع ان يبقى المعدل العام للمتساقطات أقل من السنة الماضية. ولكن رغم هذا لا يمكننا القول أن لبنان دخل مرحلة جفاف لأن الجفاف لا يحتسب بسنة واحدة ولا شك أننا سنشهد بعد شهر شباط متساقطات تحيي الطبيعة من جديد.
صيف ثان يليه شتاء بارد
هذه القراءة العلمية تقابلها قراءة أخرى للخبير في الأحوال الجوية ومدير موقع Daily weather proالأب إيلي خنيصر الذي يقول ان لبنان يشهد حالياً منطقة من الضغط الجوي المرتفع آتية من العراق وشبه الجزيرة العربية مروراً ببحر قزوين تحمل معها هواءً شرقياً يخفف من الأمطار ويسبب في تأخر الشتاء في لبنان. وهذا الاتجاه يرجح ان يستمر حتى أواسط شهر كانون الأول مع درجات حرارة فوق معدلاتها الطبيعية قد تصل الى 27 او 29 على الساحل و27 في البقاع وهذه الحالة نادراً ما نراها لكن يعود السبب فيها إضافة الى ارتفاع الضغط في شبه الجزيرة العربية وصول كتل دافئة من صحراء ليبيا ومصر نحو لبنان. وحتى الأسبوع الأول من كانون الأول يمكن القول أننا نعيش “صيفاً ثانيا!” لكن بعد ذلك يتوقع وصول كتل قطبية تترافق مع انخفاض في الحرارة وهطول للأمطار والثلوج على ارتفاعات عالية.
ويؤكد الأب خنيصر أن البواحير التي كانت معتمدة على أيام الجدود لتحديد الطقس طوال فصل الشتاء لا يمكن الركون إليها أولاً لأنها ليست علمية وثانياً والأهم لأن التغيرات المناخية أبطلت ما كانت تعتمده البواحير من مؤشرات سابقاً. أما مطبوخ الأرمن الذي يعوَل عليه البعض لتوقعات فصلية فهو في الحقيقة يوضع في إيطاليا ولا علاقة له بالشرق الأوسط. تبقىى الطريقة العلمية الوحيدة لمعرفة تقلبات الطقس هي خرائط المراقبة التي تتابع سير المنخفضات الجوية من المحيط الأطلسي عبر أوروبا وشمال أفريقيا نحو الشرق الأوسط ومراقبة حركة الرياح القطبية نحو المناطق الجنوبية. مراقبة هذه المؤشرات تعطينا توقعات لعشرة الى خمسة عشر يوماً كحدٍ أقصى أما مراقبة شتوية بأكملها فأمر غير علمي.
“لكن انطلاقاً من معرفتنا ومراقبتنا للسنوات الماضية يؤكد الأب خنيصر ومن خلال الضغط المرتفع في القطب الشمالي وحركة الرطوبة في الأطلسي التي تغذي أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط يمكن أن نأخذ فكرة أولية أننا سنشهد شتاء اعتيادياً او اشد من الاعتيادي من حيث الرطوبة والأمطار نظراً لما يشهده المحيط الأطلسي من حرارة مرتفعة ونسبة تبخر عالية وبسبب تشكل منخفضات أطلسية. وحين تنتهي الموجة الدافئة التي نشهدها حالياً نحن على موعد مع انخفاض في درجات الحرارة وإذا ترافق هذا الانخفاض مع وصول منخفض جوي فقد نشهد تساقطاً للثلوج.
هذا الشتاء عموماً ماطر ويمكن أن نرى فيه فترات من البرد الشديد حتى من دون مطر بسبب النشاط القطبي اي يتوقع ان تكون شتوية فيها برد ومطر وثلوج ربما أكثر من المعتاد رغم تأخرها لكن هذه التوقعات تتوقف على التقلبات الآنية للطقس ووصول المنخفضات الجوية ولا يمكن الجزم بالعواصف قبل ان تصل لكن ثمة توقعات للثلوج شرط ان تترافق مع منخفض جوي.
دافئة أم باردة لا تزال شتويتنا مبهمة تحمل معها الى الشعب المقهور هبّة باردة وهبّة ساخنة.