كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
تمّ التداول كثيراً لحظة تأليف الحكومة، بانتزاع الرئيس ميشال عون للثلث المعطِّل، وانّ الحكومة لم تكن لتولد لولا انتزاعه هذا الثلث زائداً واحداً، الذي يمكِّنه من التحكُّم بالقرارات الأساسية ومصير الحكومة في آن معاً، فهل سيستخدم هذا الثلث لتحويلها إلى حكومة تصريف أعمال؟
يجب من الآن فصاعداً، مع دخول رئيس الجمهورية في العدّ العكسي لانتهاء ولايته، توقُّع اي خطوة يُقدم عليها في سياق التهيئة للانتخابات الرئاسية التي شكّلت أساساً أولوية العهد منذ لحظة انطلاق ولايته، وبالتالي، كيف بالحري في السنة الأخيرة لهذه الولاية، والتي ستتحوّل إلى أولوية الأولويات؟
فلن يترك الرئيس عون القصر قبل ان يؤمِّن انتقاله إلى النائب جبران باسيل، ووضعه اليوم يختلف عن العام 1988 عندما كان هدفه البقاء في القصر الجمهوري من خلال تأمين انتقاله من رئيس حكومة انتقالية إلى رئيس للجمهورية، والاختلاف يكمن في انّه لا يريد البقاء في القصر لمجرّد البقاء في موقع يطمح كل من شغله إلى تمديد إقامته فيه، إنما استخدام استمراره فيه كورقة قوة لضمان من يخلفه.
فأولوية عون اليوم تأمين انتخاب باسيل رئيساً للجمهورية، وهذا الهدف يتطلّب تبني ترشيحه من قِبل «حزب الله»، لأنّه لا يستطيع ان يخوض هذه المواجهة منفرداً، خصوصاً في ظل خصوماته مع معظم القوى السياسية وتدني شعبيته وانتظار الناس لحظة انتهاء ولايته. وبالتالي، من دون التبنّي العلني للحزب يصعب عليه حجز مقعد من سيخلفه، بفعل حاجته إلى بيئة سياسية حاضنة تملك قوة السلاح ووهج هذا السلاح، وقوة ضبط اعتراض من هم في معسكر الحزب السياسي.
ولن يتردّد رئيس الجمهورية وفريقه في القطع مع «حزب الله»، في حال لم يتجاوب مع رغبتهم بتبنّي ترشيح باسيل، لأنّ كل هدف التفاهم مع الحزب كان الوصول إلى بعبدا، وفي حال لن يؤمِّن الحزب استمرارية هذا الهدف، فلن يؤمِّن الفريق العوني الغطاء له. ومعروف عن هذا الفريق انه يلعب «صولد» تحقيقاً لأهدافه، خصوصاً انّه لم يعد هناك من شيء يخسره بعد الخسارات الواسعة التي مُني بها على أكثر من مستوى.
ولكن، بقدر حاجة الفريق العوني إلى تبنّي «حزب الله» لترشيح باسيل، والذي من دونه لن يتمكن من تفريغ موقع الرئاسة الأولى والمفاوضة على إنهاء الفراغ مقابل انتخابه، فإنّ الحزب لا يملك بدوره ترف تحويل الحالة العونية إلى خصومة له في ظلّ خصوماته الواسعة، وبالتالي لن يكون من السهولة عليه عدم تبنّي باسيل، إلّا انّ هذا التبنّي ليس سهلاً على الحزب لأربعة أسباب أساسية:
السبب الأول يتعلّق في بيئته المباشرة التي لا تستسيغ هذا الخيار بعد الانهيار الذي وصل إليه لبنان وأصابها مباشرة، فضلاً عن تمييزها بين عون وباسيل ومرحلة تبنّي الأول والمرحلة الحالية، كما انّ انتظاراتها من هذا الفريق تبدّدت.
السبب الثاني يرتبط بالرئيس نبيه بري، الذي رفض أساساً انتخاب عون رئيساً للجمهورية، وخلافه مع العهد هو القاعدة لا الاستثناء، ولن يتردّد في خوض مواجهة ضدّ خيار باسيل، فيما أولوية «حزب الله» تجنُّب الشرخ بين الحزب وحركة «أمل».
السبب الثالث يتصل بالنائب السابق سليمان فرنجية، الذي يعتبر انّ رئاسة الجمهورية من حقه بعدما انتُزعت منه، على رغم التأييد الداخلي والخارجي لترشيحه.
السبب الرابع يتعلّق بالمعارضة السياسية والشعبية الواسعة لهذا الخيار، والتي ستضع الحزب في مواجهة مع الجميع في حال أقدم على تبنّي ترشيح باسيل.
ويدرك «حزب الله» استحالة إقناع عون بعدم تبنّي باسيل، كما يدرك استحالة المونة عليه، ويدرك أيضاً انّه سيلجأ إلى خطوات تصعيدية، ليس فقط لأنّه يعتبر انّ انتخاب باسيل إذا لم يحصل وهو في بعبدا لن يحصل أبداً، إنما لأنّ هذا الفريق يخوض مواجهاته من دون سقوف وضوابط، وهو على استعداد لاستخدام كل أوراقه تحقيقاً لهدفه.
ولن ينتظر رئيس الجمهورية نهاية ولايته لتسعير المواجهة، لإدراكه انّ عامل الوقت يعمل ضدّه، وبالتالي يريد ان يضمن ورقة خلافته قبل نهاية ولايته، وهذا ما يفسِّر فتحه المعركة الرئاسية من خلال حديثه الرئاسي وإعلانه انّه «لن يسلِّم إلى الفراغ»، واشتراطه لمغادرة قصر بعبدا إما انتخاب رئيس جديد أو تأليف حكومة بعد الانتخابات النيابية، بحجة انّ صلاحيات رئيس الجمهورية لا تذهب إلى حكومة تصريف أعمال.
وإذا كان من الثابت انّ عرقلة تأليف حكومة وعرقلة انتخاب رئيس ستكون متعمّدة لاستمرار عون في بعبدا واستخدام هذه الورقة للتفاوض على انتخاب الخلف، إلّا انّ السيناريو الآخر الذي لا يجوز إسقاطه وإهماله أيضاً هو عدم إجراء الانتخابات النيابية تجنباً لكشف الوضعية المسيحية للفريق الرئاسي، والتي يتلطّى خلفها للاحتفاظ بالموقع الأول في الجمهورية، خصوصاً انّه استند الى هذا العامل في الوصول الى القصر الجمهوري، فيما أي انتخابات ستُظهر مدى تراجع حضوره وتمثيله المسيحيين، وبالتالي ليس مضطراً الى كشف وضعيته وخسارة ورقة من أوراقه المتبقية، خصوصاً انّها ستؤول إلى خصمه الدكتور سمير جعجع، ولذلك، لن يتردّد في الإطاحة بالانتخابات إن من الباب الدستوري، أو الأمني-المعيشي.
وترحيل الانتخابات إلى 8 أو 15 أيار قبل أسبوع على انتهاء ولاية البرلمان ليس وليد صدفة، إنما من أجل القدرة على التمديد تجنّباً للفراغ، فأي حدث يحصل في مطلع أيار يعرِّض الانتخابات النيابية للخطر، ويضع الجميع أمام إما التمديد وإما الفراغ، بينما اي حدث يحصل في آذار، الموعد المتفق عليه سابقاً لإجراء الانتخابات، يمكن معالجته، وبالتالي الإصرار على أيار لا علاقة له بالطقس ولا اي عامل آخر، إنما إبقاء خيار التمديد على الطاولة والإقدام عليه تحت وطأة ظروف مستجدة وطارئة.
ولكن التمديد للبرلمان يعني استمراراً لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، كما يعني انّ صلاحيات رئيس الجمهورية ستنتقل إليها في حال تعذُّر إجراء انتخابات رئاسية، باعتبارها حكومة قائمة بذاتها وليس حكومة تصريف أعمال، وبالتالي الخيار الوحيد أمام هذه الحالة، من أجل ضمان استمرار عون في موقعه الرئاسي وعدم الخروج منه قبل انتخاب باسيل رئيساً للجمهورية، يتمثّل في تحويل حكومة ميقاتي إلى حكومة تصريف أعمال، فيكتمل المشهد السياسي: حكومة تصريف أعمال، وبرلمان ممدّد، وتمديد رئاسي بحكم الأمر الواقع لا الدستور.
ويشكّل تحويل حكومة ميقاتي إلى حكومة تصريف أعمال اختباراً عملياً لامتلاكه الثلث زائداً واحداً من عدمه، فيكرّر مشهدية الاستقالة مع حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، إنما هذه المرة منفرداً من دون «حزب الله»، ويضمن بذلك ثلاثة أهداف: الأول تجنُّب انتخابات نيابية ستكشف نتائجها تراجع شعبيته المسيحية، الثاني ضمان استمراره في القصر الجمهوري بحجة عدم تسليمه حكومة تصريف أعمال، والثالث تخيير الجميع بين ان يخلفه باسيل لإنهاء الفراغ، وبين تسوية جديدة بعد الفوضى الدستورية والفراغ المتمدِّد والمفتوح والتحلُّل المؤسساتي وانعدام الثقة الشعبية بالدولة والدستور وكل شيء.