كتب عماد مرمل في “الجمهورية”:
يتواصل النزاع المرتفع الكلفة بين القضاء وجزء من السلطة، من دون أن تنجح الوساطات بعد في انهائه، ما يتسبب في استنزاف مستمر لجسم الدولة السقيم أصلاً، والذي تفاقم الاختلال في توازنه جراء العوارض المترتبة على هذا النزاع.
لكن، وعلى رغم السقوف المرتفعة والسيوف، يتهيّب الجميع الوصول في المواجهة الحالية الى حدود اللاعودة. وهكذا، فإنّ الجهات المعنية بالاشتباك على خط التماس السياسي – القضائي لا تزال تترك ضمن حساباتها خط رجعة للخروج من المأزق، وإن بدت متصلّبة ومحتدة في مواقفها المعلنة، لزوم تحسين المواقع التفاوضية.
إذ لا «حزب الله» يريد أن يكون ثمن معركته ضدّ القاضي طارق البيطار سقوط تحالفه المترنح مع «التيار الوطني الحر» وفرط الحكومة التي تحمل عن صواب او خطأ كنيته السياسية، ولا رئيس الجمهورية ميشال عون والنائب جبران باسيل يريدان ان يكون ثمن دفاعهما عن البيطار التضحية كلياً بتفاهم مار مخايل وبالحكومة التي يملكان حصة وازنة فيها، ولا رئيس مجلس النواب نبيه بري يريد أن يذهب في نزاعه مع عون وباسيل ودفاعه عن صلاحيات مجلس النواب الى حدّ توجيه ضربة قاضية الى مجلس الوزراء بجريرة قاضٍ وكشف البلد بكامله على المجهول، ولا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يريد أن تنتهي مغامرته في السرايا الحكومية بهذا السوء وبهذه السرعة، فيخرج من السلطة مأزوماً وهو الذي أتى اليها ليدير الأزمة.
من هنا، يستمر السعي الى العثور على مخرج «توافقي» يرضي القضاء والمعترضين عليه في آن واحد، ويوفق بين استمرار الحكومة وبقاء البيطار في الوقت نفسه.
وعلى ذمّة الرواة، فإنّ ميقاتي وخلال أحد الاجتماعات التي جمعته مع عون في قصر بعبدا، اتصل برئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود وأبلغ اليه بأنّ هناك مسعى يجري من أجل إيجاد حلّ لمسألة البيطار على أساس الالتزام بالدستور والصلاحيات القضائية، وحضّه على التفاعل إيجاباً مع هذا المسعى، ثم اعطى الهاتف لرئيس الجمهورية الذي خاطب عبود في المنحى نفسه، فأجابه رئيس مجلس القضاء الأعلى: «وصلت الرسالة»، وهو ردّ بدا في حينه ملتبساً وخاضعاً للتأويل.
ومن باب الدلالة على تلهف ميقاتي لـ»اختراع» حلّ ينقذ حكومته من حبل المشنقة السياسية، يروي العارفون انّه ومع تصاعد التوتر في آخر جلسة عقدها مجلس الوزراء، قبل أن يتوقف عن الانعقاد، انفرد ميقاتي بوزير محسوب على حزب اساسي وقال له: «بدي منك شي أرنب»، فأجابه الوزير: «دولة الرئيس، المطلوب إقصاء طارق البيطار وهذا يحتاج إلى «رِكاب».
لكن ميقاتي يعتبر انّ الأمر لا يحتاج إلى «رِكاب» ولا عضلات، بل يتطلب حكمة وتنازلات متبادلة، تفضي الى تدوير الزوايا بدلاً من ان يصبح الجميع محشورين فيها، كما هو الوضع الآن.
وهناك من يؤكّد في هذا السياق انّ لدى «حزب الله» وحركة «أمل» الاستعداد في نهاية المطاف للقبول بحل وسط، يبقى بموجبه البيطار في مكانه كمحقق عدلي في قضية المرفأ، ولكن على قاعدة أن يُنزَع منه ملف الإدّعاء على الرئيس حسان دياب وبعض الوزراء السابقين، لتتمّ إحالته الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء احتراماً لصلاحيات مجلس النواب ودوره، وبذلك يكون الطرف المؤيّد للبيطار قد ربح عدم قبعه ومعاقبته، والطرف المعترض على سلوكه يكون قد فاز بضبط اندفاعته وعودته الى حجمه الطبيعي.
ويلفت المطلعون، الى انّ الحزب والحركة لا يريدان ان تنتهي الأمور إلى «قبع» الحكومة التي شاركا في صنعها بدلاً من البيطار، وبالتالي هما حريصان على تفادي قطع الخيط الرفيع الذي يفصل بين الضغط على الحكومة وبين إسقاطها.
ويُروى انّ بري أبلغ إلى عون انّه إذا تجاوب مع محاولات معالجة «شرود» البيطار فإنّه سيبدي بدوره أقصى إيجابية ممكنة حياله وسيردّ التحية بأحسن منها.
وبينما يتهم مناصرو البيطار وعدد من القوى السياسية «الثنائي الشيعي» بـ»انتهاك» مبدأ فصل السلطات عبر مطالبته الحكومة بالتدخّل لإزاحة البيطار او تعديل سلوكه تحت طائلة الاستمرار في «احتجازها»، تعتبر أوساط «الثنائي» انّ المحقق العدلي هو الذي ضُبط متلبساً بمصادرة صلاحيات مجلس النواب والاعتداء على الدستور، حين ادّعى على دياب ووزراء سابقين، متجاهلاً انّ ملاحقتهم تعود حصراً الى «المجلس الأعلى»، «وبالتالي فإنّ البيطار هو الذي يجب أن يعيد الاعتبار الى مبدأ فصل السلطات، لأنّه كان البادئ في انتهاكه، والبادئ اظلم».
وتشير الاوساط، إلى انّ البيطار «تجاوز حدود دوره القضائي، وصار أشبه بـ»سوبرمان» الذي يستحوذ على صلاحيات منتفخة، لم يحصل ان اكتسبت مثلها أي شخصية من قبل، الأمر الذي لا يمكن قبوله»، في حين انّ المدافعين عنه يصرّون على انّه يحترم في كل إجراءاته الاصول القانونية، «وإلّا ما كانت أعلى المراجع القضائية لتناصره، وما كانت محكمة التمييز لتردّ الدعاوى المرفوعة في حقه».
وأمام هذا الاستعصاء والاحتقان المحيطان بواحد من أكثر الملفات دقة وتعقيداً، تشدّد شخصية مواكِبة له على أنّ هناك مصلحة لدى الجميع في النزول من أعلى الشجرة، والمطلوب فقط مدّ السُلّم المناسب لتحقيق ذلك.