كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
ثمة علاماتٌ ساخنة تتجمَّع في سماء الشرق الأوسط. ففي لحظة انطلاق المفاوضات الأميركية – الإيرانية في فيينا، ارتفع منسوب الغضب في إسرائيل إلى أقصاه. وأعلن الإسرائيليون أنّهم لن يسكتوا على اتفاق يَدرُّ على طهران مليارات الدولارات التي تستخدمها لإنتاج سلاح نووي وغير نووي، وتُكرِّس نفوذها الإقليمي. فهل المنطقة مقبلة على انفجار؟
عشية انطلاق المفاوضات، تَقصَّد رئيس وزراء إسرائيل، نفتالي بينيت، توجيه رسالةٍ إلى الأميركيين: «حذارِ أن تُرفَع العقوبات جزئياً عن طهران، فتتدفّق الأموال إليها، فيما لا أحد قادر على منعها من استئناف برنامجها النووي».
هذا الموقف يترجم تبايناً واضحاً بين الحليفين. فالإسرائيليون قلقون من قبول واشنطن بتسويةٍ «رَخْوَة» مع إيران، تقضي في الظاهر بالعودة المتدرّجة إلى اتفاق 2015، لكنها في الواقع تتيح لها مواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم، ما يقرّبها من امتلاك سلاح نووي. ووفق بعض الخبراء، باتت هذه المسألة قيد أسابيع أو أشهر قليلة.
وليس دقيقاً أنّ مشكلة إسرائيل هي رحيل دونالد ترامب ومجيء جو بايدن. فحتى رئيس وزرائها السابق بنيامين نتنياهو لم ينجح في دفع ترامب إلى عمل ردعيّ حقيقي ضدّ إيران. واكتفت الإدارة الأميركية بالانسحاب من الاتفاق النووي والعقوبات المالية التي استطاع الإيرانيون «تنفيسها» بمساعدةِ الروس والصينيين والأوروبيين.
واليوم، يذهب بايدن إلى مهادنة أبعد مع إيران. وهو يريد طيّ الصفحة «بالتي هي أحسن»، لكي يتفرّغ لمواجهات أكبر مع روسيا والصين.
النظرة الأميركية للتسوية تقضي بأن يبدأ الإيرانيون بالتنازل، فيقدّمون ضماناتٍ أولية. ويقابلهم الأميركيون برفعٍ محدَّد للعقوبات المالية والاقتصادية. ثم تتوالى الخطوات المتبادلة حتى عودة الطرفين إلى منطوق اتفاق 2015.
في نظر الإسرائيليين، هذا المَخرج سيصبّ عملياً في مصلحة إيران التي لم تلتزم أساساً بالاتفاق، يوم إبرامه. وعندما أفرجت إدارة باراك أوباما عن الأرصدة الهائلة التي كانت تملكها إيران في الولايات المتحدة، استفاد الإيرانيون من الأموال الواردة لتدعيم قواهم النووية وغير النووية، وبسط مزيد من النفوذ عبر الشرق الأوسط.
في الأيام الأخيرة، حاول الأميركيون تطمين الحلفاء إلى أنّ «كل الخيارات» ستبقى واردة إذا لم يلتزم الإيرانيون بالاتفاق الذي قد يتمّ التوصل إليه في فيينا. وعبَّر عن ذلك وزير الدفاع لويد أوستين خلال زيارته للبحرين. ولكن، بالنسبة إلى إسرائيل، لا مجال لردع إيران فعلاً إلّا بالخيار العسكري، أي بأن تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بضرباتٍ تؤدي إلى تدمير برنامج إيران النووي. وهذا الخيار يرفض الأميركيون التورُّط فيه تحت أي ظرف، نظراً إلى التعقيدات التي يتسبب بها. وهو ليس وارداً في عهد بايدن، كما أنّه لم يكن وارداً في عهد ترامب.
طبعاً، هذا يقود إسرائيل إلى التفكير في أخذ المسألة على عاتقها وحدها، أي أن تقوم بضرب المفاعلات الإيرانية جوّاً، كما ضربت مفاعل «تموز» العراقي، العام 1981، ودمَّرته، أو المنشآت التي تَردَّد أنّها استُهدِفت في سوريا عام 2007.
لكن هذا الأمر دونه صعب على إسرائيل لوجستياً، لجهة المسافة التي يُفترض أن تجتازها المقاتلات للوصول إلى هناك، في جولات عدّة، وبحمولاتها الثقيلة، حيث تحتاج إلى التزوُّد بالوقود، والمرور في أجواء دولٍ عدّة. كما أنّ المنشآت الإيرانية محصّنة جيداً تحت الأرض، ويصعب استهدافها بكاملها.
ولذلك، سيكون الجيل المقبل من المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية مرتكزاً إلى الأمن الإلكتروني في الدرجة الأولى. فبهذا السلاح اغتالت إسرائيل كبير العلماء في المجال النووي محسن فخري زادة قبل عام، وعطّلت مفاعل «نطنز» لفترة، في نيسان الفائت.
وفي المقابل، وفي الفضاء السيبراني أيضاً، للإيرانيين تجاربهم الناجحة في مجال الطائرات المسيَّرة، براً وبحراً. وهذا ما يمكن أن يطلق مواجهات ساخنة تبدأ في مجال الأمن الإلكتروني وتتّسع لتشمل الأسلحة التقليدية.
بعض الخبراء يتوقع أن تعمد إسرائيل إلى افتعال مواجهة مع إيران، بهدف إحباط أي تسويةٍ في فيينا تستفيد منها طهران للخروج من مأزقها المالي واستكمال بناء سلاحها النووي وتوسيع نفوذها الإقليمي. وتريد إسرائيل إحراج الولايات المتحدة بحيث تضطر إلى التورُّط في المواجهة.
ولكن، يقول آخرون، إنّ إسرائيل لا تريد الحرب فعلاً، وإنّها ترفع سقف تهويلها إلى الحدّ الأقصى ضمن مناورة تهدف إلى قطف كثير من الثمار من الأميركيين والأوروبيين والعرب على حدّ سواء.
فهي بتضخيمها حجم المخاطر الإيرانية تطلق المقايضة مع الولايات المتحدة، للحصول على مكاسب دفاعية ومالية هائلة. وكذلك توحي للخليجيين العرب المتوجّسين من النفوذ الإيراني، بما يمتلكون من طاقاتٍ مالية ونفطية، بأنّها هي الداعم الأكبر لهم وأنّ مصالحهم الأمنية تقتضي التلاحم معها.
إذاً، ستعيش دول «الهلال الإيراني»- ولاسيما لبنان وسوريا والعراق- تحدّيات المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية في الفترة المقبلة، في موازاة «التجاذب» الأميركي – الإيراني. ويُخشى أن يشعل ذلك حرباً كبيرة أو حروباً صغيرة تدفع ثمنها هذه الدول، ولبنان أوَّلها.
فاتجاهات المناخ السياسي والأمني والاقتصادي ستتقرّر في لبنان على هذا الأساس، من الانهيارات المالية والنقدية والاقتصادية، إلى الاستحقاقات الانتخابية، إلى الضربات والمغامرات الأمنية المحتملة، إلى مفاوضات الناقورة التي ستكون عملياً ترسيم حدود بين النافذين، أي إسرائيل وإيران والولايات المتحدة وكثيرين، فيما لبنان متروك على قارعة الانتظار.