كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
انتظر الجندي اللبناني مالك خروج الزبائن القليلين من محل لبيع وتعبئة الغاز في منطقة التل بطرابلس، ودخل حاملاً أنبوبة غاز صغيرة، زنة 2 كيلوغرام، تُستخدم عادة في الرحلات، ليطلب من صاحب المحل، الذي يعرفه تمام المعرفة، تعبئتها بـ75 ألف ليرة فقط، لأن أنبوبة الغاز الرئيسية فرغت، ولم يتبق من راتبه ما يكفي لشراء واحدة جديدة، زنة عشرة كيلوغرامات، بعدما تجاوز سعرها الـ310 آلاف ليرة.
ليست هذه الرواية فريدة من نوعها في خضم الأزمة الكارثية التي تعصف بلبنان، التي طالت كل الطبقات الفقيرة، وحتى المتوسطة، وأثّرت بشكل خاص على موظفي القطاع العام، الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة، دون أي زيادة، ومن ضمنهم العاملون في المؤسسات الأمنية، من جيش وقوى أمن، وأمن عام.
ومع التدهور الحاد لقيمة الليرة أمام الدولار، أصبح راتب العسكري يوازي 70 دولاراً، مقابل 1000 دولار قبل الأزمة المالية، ما أرخى بتداعيات معنوية ومالية جسيمة على المؤسسة، قيادة وأفراداً، ودفع بالعسكريين إلى التوجه إلى أشغال إضافية، لم يكن مسموحاً بها من قبل.
لم يعد مستغرباً أن تجد عسكرياً يعمل سائق سيارة أجرة، أو عامل توصيل، أو حارسا ليلياً، أو حتى في ورش بناء. حسان، المؤهل في قوى الأمن الداخلي، واحد من هؤلاء، ففي سيارة الأجرة التي يعمل عليها، راح يروي لـ القبس بخجل محموم، وبأسى ظاهر، كيف انقلبت حياته في غضون أشهر: «في رصيدي 26 عاماً من الخدمة، رتبتي مؤهل، غير أنني اليوم مستعد للتنازل عنها وعن تعويضي حال توفرت لي فرصة للسفر مع عائلتي خارج هذا الجحيم اليومي».
لحسان أربعة أبناء، تتراوح أعمارهم بين 10 و18 عاماً، يتابعون تحصيلهم المدرسي والجامعي، يتقاضى حسان شهرياً مليونين و750 ألف ليرة، بما يوازي 1850 دولاراً عام 2019، و120 دولاراً اليوم.
تغرق عيناه بالدموع عندما يصل الحديث إلى حلمه بإيصال أبنائه إلى أرقى الجامعات: «الدولار دبحنا، المؤسسة لم تعد تغطي %80 من الرسوم الدراسية كما في السابق»، مردفاً وهو ينفث دخان سيجارته: «كنا مستورين بتغطية نفقاتنا اليومية، بالطبابة، بالتعويض المدرسي، اليوم أنا مدين بملايين الليرات، وعاجز عن دفع تكاليف الكهرباء والغاز واشتراك الإنترنت والمولّد الكهربائي، فضلاً عن دفعة شهرية لبنك الإسكان».
ونسأله إذا كان العمل سائق أجرة يؤمن النقص في هذه التكاليف، فيقول إنه فكر بهذا العمل من أجل توفير أجرة النقل على أبنائه ذهاباً وإياباً إلى المدارس والجامعة.
حاله حال زملائه، يقول إن كثيراً منهم لا يحضرون إلى مراكزهم وثكناتهم بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، ومنذ تموز تم تعديل جداول الخدمة لتتلاءم مع الظروف الصعبة، فهو مثلا يحضر إلى مركزه يومين مقابل 4 أيام إجازة.
وفي إطار المساعدات التي أقرتها المؤسسات الأمنية لمساعدة عناصرها، يحصل حسان على كرتونة إعاشة شهرياً، تستبدل أحياناً بمساعدة مالية، ويقول: «الشهر الماضي دفعوا لنا 900 ألف ليرة»
ويتحدث المؤهل في قوى الأمن عن حالات فرار عدة داخل فوجه، لكنه لا يفكر في الفرار، لأن أي وظيفة خارج السلك العسكري لن تكون أفضل حالاً: «حتى لو تقاضيت خمسة ملايين ليرة فهي كأنها 500 ألف ليرة. أشعر أنني أفنى في هذه البلاد. كنت أرفض فكرة إهانة المؤسسة العسكرية، وأحرص على خدمتها بكل التزام، لكننا اختنقنا حرفياً. أعرف عسكريين أصيبوا بانهيار عصبي، وأخاف أن أفقد السيطرة على أعصابي».
بدوره، حذر مارون حتي، وهو جنرال متقاعد يعمل الآن مستشاراً عسكرياً، من تهديد تماسك الجيش، لافتاً إلى «أنه نظام كامل ينهار وينهار. يجب أن نتحرك ونجد الآليات التي يمكن أن تزود الجنود بعلامات الدعم المادية».
ضمن فوجه المؤلف من 700 رجل، يحصي أحد العسكريين أكثر من مئة جندي شاب تركوا المؤسسة، بحثاً عن وظائف برواتب أفضل. في حين تؤكد مصادر عسكرية أن حالات الفرار لا تزال محدودة على مستوى المؤسسة.
حيال هذا الواقع، تم تطوير خطة داخل الجيش لإعادة إنشاء شبكة أمان اجتماعي دنيا للجنود، تنص على توزيع سلة غذائية شهرية، وإنشاء نظام نقل مجاني، وسد النقص في الأدوية داخل نظام المؤسسة العسكرية الصحي، وإنشاء صندوق طوارئ للأفراد العسكريين الذين يواجهون أزمات ومشاكل.
كما تم إرسال قائمة بالاحتياجات إلى الأمم المتحدة (UN) والشركاء الأجانب من أجل استهداف التبرعات العينية التي تتدفق منذ شهور، بما في ذلك 4 ملايين يورو من فرنسا عام 2021.
كما يكثف قائد الجيش العماد جوزاف عون زياراته إلى الخارج، وآخرها زيارة للولايات المتحدة، لحشد التبرعات والدعم السياسي.
ويضيف مصدر عسكري غربي لـ «لوموند» أن «الهدف هو مساعدة القوات المسلحة اللبنانية على زيادة قدراتها بما يكفي لتنفيذ مهامها الأمنية الداخلية وعدم ترك الساحة مفتوحة لحزب الله.. ستكون هذه أكبر مساعدة للجيش اللبناني. الفكرة هي إنشاء صندوق استئماني مشترك تديره الأمم المتحدة لتقديم التبرعات الدولية بشفافية كاملة. لا يتعلق الأمر بدفع جميع رواتب المؤسسة، بل بمنع المؤسسة من الانهيار».
وتقترح هذه المساعدة دفع 100 دولار شهرياً لكل جندي، بميزانية سنوية تبلغ 86 مليون دولار، حسب مصادر عدة. ورغم أن الفكرة وضعت على السكة إلا أن التمويل لم يتأمن بعد، علماً أن الأزمة الدبلوماسية بين بيروت والرياض استبعدت بالتأكيد خيار الدعم الخليجي، في حين أن قدرات الدول الأوروبية التمويلية محدودة. وعليه، فكل الأنظار تتجه إلى الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي للجيش اللبناني.
مصدر عسكري قال لصحيفة لوموند الفرنسية إن «المؤسسة تتعامل بواقعية مع الأزمة الراهنة، فالجندي الذي أصبح راتبه ما بين 60 و70 دولاراً لن نمنعه في حال عثر على عمل آخر يسنده. فالأولوية هي لتجنب حالات الفرار من المؤسسات الأمنية، وهذا ما دفع بقادة الألوية إلى تغيير جداول الحضور. يحضرون إلى المراكز من عشرة إلى اثني عشر يوماً في الشهر، بدلاً من اثنين وعشرين يوماً، حتى يقللوا تكاليف النقل ويدبروا عملاً اضافياً».
آرام نيرجويزيان من مركز كارنيجي للأبحاث يوضح أنه «مع تدهور العملة الوطنية، انخفضت ميزانية الدفاع من 1.2 مليار دولار في 2019 إلى 200 مليون دولار. لم يعد هذا كافياً لدفع رواتب 80 ألف عسكري في الجيش اللبناني أو للمحافظة على المزايا الاجتماعية التي كانوا يتمتعون بها».