كتب محمد شقير في “الشرق الأوسط”:
يستغرب مصدر دبلوماسي أوروبي في لبنان كيف أن معظم القوى السياسية تمتهن الهروب إلى الأمام بتحميلها التأزُّم السياسي للصراعات الدائرة في المنطقة وكأنها مسؤولة عن تعطيل انعقاد مجلس الوزراء أو بلوغ العلاقات اللبنانية – الخليجية أزمة غير مسبوقة تتجاوز الإساءة التي تسبب بها تصريح وزير الإعلام جورج قرداحي إلى رزمة من التراكمات بدأت تحاصرها منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية ورفضه مغادرة تموضعه إلى جانب حليفه «حزب الله» ما أفقده القدرة على التدخُّل لرأب الصدع الذي أصاب هذه العلاقات.
ويؤكد المصدر الأوروبي، كما نُقل عنه لـ«الشرق الأوسط»، أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وإن كان ليس في وارد الاستقالة حتى إشعار آخر فإن حكومته وقعت ضحية التجاذبات السياسية التي حوّلتها إلى حكومة تصريف أعمال من دون أن تستقيل، ويقول إن شركاءه في الحكومة أخلّوا بتعهداتهم بتوفير الدعم لها لانتشال لبنان من الانهيار والانتقال به إلى مرحلة الإنقاذ التي ما زالت متعثّرة.
ويلفت إلى أن ميقاتي يقاوم تعطيل جلسات مجلس الوزراء بالصمود والعناد رافضاً الاستسلام للأمر الواقع وتحديداً تبادل الضغوط بين «أهل البيت» الذي يُفترض أن يشكل رافعة لوقف الانهيار وتماديه في تعطيل الجلسات التي يتحمل مسؤوليتها الرئيس عون من دون إعفاء «الثنائي الشيعي» من مسؤوليته على خلفية إصراره على تصحيح مسار التحقيق العدلي بإعادة توزيع التحقيق في انفجار مرفأ بيروت بين المحقق العدلي القاضي طارق البيطار وبين المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
وفي هذا السياق، يقول مصدر سياسي لـ«الشرق الأوسط» إن عون و«حزب الله» يتحمّلان مسؤولية تعطيل جلسات مجلس الوزراء، مع أن ميقاتي لا يزال يراهن على دور رئيس المجلس النيابي نبيه بري لإعادة النصاب السياسي إلى الحكومة بما يسمح لها باستئناف جلساتها، ويؤكد أن استقالة ميقاتي وإن كانت بمثابة الشر الأصغر الذي يتهدّد البلد، فإن الشر الأكبر يكمن في السؤال عن مفاعيلها وتداعياتها التي من شأنها أن تُغرق البلد في متاهات التفلُّت الأمني الذي يفتح الباب على إقحامه في مسلسل فوضى يصعب السيطرة عليه.
ويرى المصدر نفسه أن ميقاتي لا يزال يراهن على مبادرة القوى التعطيلية إلى التدقيق في مواقفها التي تعيق استمرار التمديد لحكومة تصريف الأعمال، فإن اجتماعه الصباحي أمس بعون لم يؤدّ إلى تحقيق انفراج لإخراج البلد من التأزُّم، وقد أكد في نهاية اللقاء أن «الحكومة ماشية إنما مجلس الوزراء مش ماشي».
ويغمز المصدر السياسي من قناة باريس محمّلاً إياها مسؤولية تجويف المبادرة التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون لإنقاذ لبنان، ويقول إنها لم تعد مؤثرة لإقناع القوى السياسية بترجمة تعهداتها إلى خطوات ملموسة تسمح بأن تصبح الطريق سالكة أمام الحكومة الميقاتية للانتقال بالبلد إلى مرحلة التعافي، ويعزو السبب لافتقادها إلى العصا والجزرة التي يمكنها استخدامها ضد القوى المعطّلة للحكومة.
ويكشف أن عون كان التزم لدى اجتماعه ببري وميقاتي بتسهيل مهمة القضاء اللبناني لتصويب مسار التحقيق العدلي في انفجار المرفأ، لكنه أطاح بالتزامه من خلال المواقف السياسية التي أعلنها خلال زيارته لدولة قطر، ويؤكد أن عون لا يزال يراهن على تطويق التداعيات المترتبة على أزمة العلاقات اللبنانية – الخليجية بطرحه المقايضة بين استقالة الوزير قرداحي وبين طي هذه الأزمة.
ويضيف المصدر نفسه أن هذه الأزمة لا تُحل إلا بابتداع مقاربة لبنانية شاملة تأخذ بما لدى دول الخليج من شكاوى مصدرها إطلاق يد «حزب الله» في استخدام لبنان منصّة لاستهداف أمن هذه الدول، وينقل عن دبلوماسي خليجي كان غادر لبنان فور استدعاء هذه الدول سفراءها المعتمدين لديه قوله إن عون لا يستطيع أن يرعى جهود إنهاء الأزمة مع دول الخليج ما لم يفك ارتباطه التحالفي بـ«حزب الله» من دون أن يعني دخوله في اشتباك سياسي معه بمقدار ما أن المطلوب منه يبقى في حدود إعادة النظر وصولاً إلى ترسيم الحدود بينهما على قاعدة انكفاء الحزب عن استخدام لبنان منصة لاستهداف دول الخليج.
ويسأل كيف أن لدى عون القدرة على رعاية التواصل مع هذه الدول طالما أنه كان وراء ترحيل البحث بالاستراتيجية الدفاعية للبنان بخلاف ما كان تعهد به بإدراجها كبند أول في خطاب القسم الذي ألقاه فور انتخابه رئيساً للجمهورية بذريعة أن لا بحث فيها الآن إلى أن تزول الأطماع الإسرائيلية بلبنان؟
كما يسأل عن الجدوى من الرهان على الجولة التي يستعد ماكرون للقيام بها على عدد من العواصم الخليجية طالما أن القوى السياسية لم تفِ بما تعهدت به وذهبت بعيداً في تعطيل الحكومة الذي سببه قرار «الثنائي الشيعي» بتعليق حضوره الجلسات مشترطاً تصويب مسار التحقيق في انفجار المرفأ برغم أنه سحب مطالبه بتنحية القاضي البيطار وطالب بملاحقة رئيس الحكومة السابق والنواب الثلاثة الذين ادعى عليهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء باعتبار أن ملاحقتهم ليست من اختصاص المجلس العدلي.
ويقول المصدر إن الاتصالات لم تنجح في وقف تعطيل جلسات الحكومة ولا في إقناع قرداحي بالاستقالة برغم أن مقايضتها بإنهاء الأزمة مع دول الخليج ليست قابلة للتسويق لأن أسبابها تتجاوز إساءته لها إلى تصويب العلاقات بما يتيح تبديد ما لدى هذه الدول من هواجس تعود إلى إطلاق يد «حزب الله» في زعزعة استقرارها وتهديد أمنها.
وعليه، فإن حل أزمة العلاقات اللبنانية – الخليجية يبقى من مسؤولية السلطة السياسية، ولن تحلّ بالرهان على المحادثات التي سيجريها ماكرون لأنه لا يملك القدرة للتأثير على «حزب الله»، مع أن ميقاتي حاول أن يرفع الفيتو الذي يمنع انعقاد مجلس الوزراء بالدعوة لعقد جلسة يشارك فيها بصورة رمزية «الثنائي الشيعي» بانتدابه وزيراً أو أكثر لتمثيله في الجلسة، لكنه اصطدم بالخلاف حول الملف القضائي، وهذا ما يشكّل إحراجاً لماكرون لأنه لن يجد الجواب في حال سؤاله عن أسباب تعطيل الجلسات.