كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
هذه المرّة، يبدو الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين أكثر استعجالاً. المسألة تتعلَّق بمصالح كبرى للنافذين إقليمياً ودولياً، في مجال الغاز، شرقَ المتوسط. وإذا استمرَّ لبنان «حجرَ عثرة» هناك، فسيضع نفسه على ممرِّ الفِيَلة، حيث الخوف من وقوعه «تحت الدعس» أو إزاحته «بالقوة» وفتح الطريق.
ثمة مغزى استراتيجي للدعوة التي أطلقتها سفيرة الولايات المتحدة، دوروثي شيا إلى لبنان، في شكل مفاجئ، من أجل الحصول على الغاز من مصر وعلى الكهرباء من الأردن، عبر سوريا، ثم منحها الغطاء الكامل للقاءات والاتصالات الجارية بين الرباعي: مصر، الأردن، سوريا ولبنان في مجال الطاقة.
الأمر لا يتعلق فقط بالردّ على بواخر البنزين والمازوت الإيرانية التي وصلت أو ستصل إلى لبنان عبر سوريا، بل يتجاوزه إلى الرغبة الأميركية في تحديد موقع لبنان وسوريا على خريطة الطاقة في الشرق الأوسط، حيث التنافس يبلغ الذروة بين المعسكرين الغربي والشرقي، والحلفاء الإقليميين لكل منهما.
وقبل أسبوع، استضافت القاهرة اجتماعاً مُهمّاً لمنتدى غاز شرق المتوسط، ضمّ إضافة إلى مصر، إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية واليونان وقبرص، وممثلين عن فرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي. كما شاركت الولايات المتحدة وممثلون عن البنك الدولي.
وخلال المؤتمر، تم توقيع مذكرات تفاهم جديدة تقضي باستيراد مصر لكميات إضافية من الغاز الطبيعي من إسرائيل، ورفع حجم الكميات المصدّرة إلى اليونان، بعد تسييلها. كما سيتم التخطيط لمدّ خط أنابيب جديدة عبر المتوسط يفترض أن يتم تدشينها بين 2024 و2025.
وسيقود هذا الحراك المكثف إلى إطلاق سوق شرق أوسطية للغاز، وللطاقة عموماً، تكون مصدراً أساسياً لأوروبا. وترغب القوى المعنية في جعل هذه السوق إطاراً موحّداً. لكن هناك عثرتين في الطريق: لبنان وسوريا. فكلاهما يرفضان الانضمام إلى المنتدى بسبب عضوية إسرائيل فيه. وكذلك، هناك إشكالات عميقة يجدر حلها معهما، خصوصاً لجهة ترسيم الحدود وتقاسم الموارد.
توازياً، تتجه إسرائيل إلى بدء استثمار حقل «كاريش» المختلف عليه مع لبنان. وشركة «إنرجين» الأميركية على وشك إرسال سفينة للحفر هناك بدءاً من آذار المقبل. ويسعى الإسرائيليون إلى ضمان تفاهم سريع مع الحكومة اللبنانية، يشكل حماية لانطلاق العمل هناك… وإلا فالضغط سيتضاعف.
من هذا المنطلق، بدأ الأميركيون يسوِّقون الطرح الجديد: فليكن «كاريش» بكامله لإسرائيل و»قانا» بكامله للبنان. وبدلاً من التفاوض الصعب على خط الحدود، يتم التفاوض على كميات الغاز مباشرة، وإبرام اتفاق. وبعد ذلك، يصبح التوصل إلى اتفاق على الحدود أسهل. وهذا ما سيحاول هوكشتاين إقناع اللبنانيين به خلال زيارته، إذا بقيت في موعدها المنتظر هذا الشهر.
المشكلة هي أن إيران، التي تمتلك غالبية القرار السياسي والعسكري والأمني في لبنان حالياً، قادرة على الخربطة. كما أن هناك قوى دولية وإقليمية أخرى تريد تأمين مصالحها في أي صفقة، كروسيا وتركيا. والقوى الثلاث تمتلك أوراقاً قوية قادرة على تحريكها في سوريا.
وبالتأكيد، ليس في مصلحة الإيرانيين أن يخسروا الورقتين الثمينتين، اللبنانية والسورية. وهم لن يُفرجوا عن الغاز في شرق المتوسط، لمصلحة الخصوم والأعداء مجاناً. وما دام «حزب الله» يمتلك السلاح وله القرار الأساسي في السلطة، فهذا يشكل عامل اطمئنان لإيران في البقعة الأكثر حيوية من الشرق الأوسط.
ولذلك، سيقاتل «الحزب» بكل الوسائل ليحافظ على عناصر قوته. وتبدو إيران اليوم في أمسّ الحاجة إلى الورقتين اللبنانية والسورية، على طاولة المفاوضات مع الأميركيين في فيينا. وعلى الأرجح، لن يُدفع لإيران أي ثمن يوازي خروجها من لبنان وتخلّيها عن موقعه الاستراتيجي البالغ الأهمية.
هنا تتّخذ المواجهة بين المحورين في لبنان طابع «كسر العظم». وفي لعبة عضّ الأصابع هذه، ثمة مَن سيصرخ ألَماً في النهاية. هل هو التحالف الأميركي مع أوروبا وإسرائيل والعرب، أم إيران وحلفاؤها؟
وبديهي أن يستخدم كل معسكر ما يملك من طاقات في هذه المعركة: الأميركيون يضاعفون الضغط على لبنان، والعرب يتشدّدون في الحصار، وإسرائيل تمتلك أدواتها. أما إيران فقدرتها واضحة على الصبر والتعطيل في لبنان.
في الحدّ الأدنى، يعني ذلك أن الأزمة في لبنان ستتّجه إلى المزيد من التعقيد والتصاعد، وطبعاً المزيد من الانهيار الاقتصادي، لأن البلد سيبقى ممنوعاً من استثمار الغاز، الثروة الوحيدة الباقية له كي يخرج من النفق، بعدما خسر كل ثرواته الأخرى.
ولكن، ربما يذهب البلد إلى وضع أشدّ سوءاً، إذا قرّر الإسرائيليون استغلال مفاوضات الناقورة لإشعال مواجهةٍ تُجبر الأميركيين على التصادم مع إيران. ولذلك، سيُظلل لبنان مزيد من القلق في الأسابيع المقبلة.