كتب طارق ترشيشي في “الجمهورية”:
ليست هناك اي توقعات لدى أحد في أنّ الاختراق الفرنسي للأزمة اللبنانية ـ السعودية سيحقق نتائج عملية قريبة، فالعلاقات الديبلوماسية بين بيروت والرياض ستعود تدريجاً الى طبيعتها، ولكنها ستكون من طبيعة باردة، مرهون زوال برودتها بالخطوات التي ستتخذها الحكومة، والتي اوجزها البيان السعودي ـ الفرنسي المشترك، وهي تتطلب وقتاً لإنجازها، في ضوء الكمّ الكبير من الملفات التي تتصدّى لوقف الانهيار الذي تعيشه البلاد.
ويقول معنيون، إنّ ما حصل من تطور ملحوظ على جبهة العلاقات السعودية ـ اللبنانية المأزومة ديبلوماسياً وسياسياً لن يُترجم عملياً في هذه العجالة، ولكنه سيساهم في إرساء مناخات هادئة بين بيروت والرياض، ستنعكس بالتالي هدوءاً داخلياً على مستوى النزاع السياسي الدائر بين الأفرقاء السياسيين المتمحورين حول المحاور الاقليمية والدولية، ويدفع الجميع الى خوض غمار استحقاق الانتخابات النيابية، كلٌ على طريقته، طامحاً لتحقيق النتائج التي يصبو اليها، علّها تعزّز موقعه في الواقع السياسي او تمكّنه من الإمساك اكثر او التأثير في مفاصل اللعبة السياسية الداخلية، من خلال السلطة الجديدة او موازين القوى الجديدة التي ستفرضها نتائج الانتخابات النيابية.
وفي رأي هؤلاء المعنيين، انّ للبنان مصلحة حيوية في التهدئة، وكذلك في ان لا تكون علاقاته مأزومة مع المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية، ولا سيما منها الخليجية، بحيث يمرّر المرحلة الصعبة التي يمرّ فيها، وينجز استحقاقاته الماثلة، علّه يلاقي بذلك الاستحقاقات التي تقبل عليها المنطقة في قابل الاسابيع والاشهر المقبلة، من مفاوضات فيينا النووية بين ايران ومجموعة الـ «5+1»، الى حرب اليمن والسعي الجاري لوقفها وفق تسوية سياسية، والى العراق وسوريا، مع الحديث عن انسحاب اميركي منهما وعن عودة سوريا الى الجامعة العربية وبالعكس، وصولاً حتى الى ليبيا واستحقاقها الرئاسي وغيره.
والمتوقع من حيث المبدأ، حسب المعنيين انفسهم، عودة العلاقة اللبنانية ـ السعودية الى ما كانت عليه قبل الأزمة مع فارق هذه المرة، هو انّ قنوات التواصل التي كانت مقطوعة بين القيادة السعودية وبين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قد فُتحت في الاتصال الذي تمّ بينه وبين ولي العهد الامير محمد بن سلمان بمشاركة الرئيس الفرنسي وحضوره، ما يبعث على توقّع ان يؤسس هذا التواصل لمزيد من الهدوء بل ومن التعاون، لتعزيز العلاقات الثنائية، خصوصاً اذا زار ميقاتي المملكة بعد زيارة ولي العهد السعودي الحالية لسلطنة عمان، بحيث يتوّج بهذه الزيارة، اذا حصلت، توافقات معينة تكون قد أُنجزت خلال اتصالات مع الرياض، ويبدأ بها جولة تحمله الى عواصم بعض دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدّمها دولة الامارات العربية المتحدة والكويت وقطر وغيرها.
وفي هذه الاثناء، ثمة توقعات في حصول تقدّم حكومي على جبهة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي يعوّل عليه ميقاتي للانطلاق في تنفيذ الاصلاحات التي تفرضها المعالجات المطلوبة للأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة او على الاقل لتهيئة الارضية اللازمة لتنفيذ هذه الإصلاحات، عبر الحكومة التي ستنبثق في الانتخابات النيابية المقبلة في حال تعذّر التنفيذ قبل هذا الاستحقاق، علماً أنّ بعض المعنيين يجزم بأنّ بعض هذه الاصلاحات سيبدأ تنفيذه مع بداية السنة الجديدة وعلى وقع الانتخابات النيابية والتحضيرات الجارية لها، ولا سيما منها الاصلاحات في قطاع الكهرباء، الذي يشكّل اكبر مزاريب الهدر والعجز في الموازنات، وكذلك على الصعيد المالي لوقف التآكل في قيمة العملة الوطنية امام ارتفاع سعر الدولار الاميركي، وكذلك ايضاً في ضوء انطلاق ورشة التدقيق الجنائي، ولو انّها لا تزال بطيئة او متباطئة حتى الآن.
وثمة من يقول انّ الاختراق الذي حققه ماكرون في ازمة العلاقات اللبنانية – السعودية كان متوقعاً، لأنّ لا مصلحة في النهاية لا للبنان في قطيعة مع دول الخليج التي تشكّل ابرز موارده المالية، خصوصاً على مستوى الاغتراب اللبناني او على المستوى الاستثماري، ولا للسعودية ودول الخليج التي لا يمكنها ان تترك وراءها فراغاً في لبنان يمكن لآخرين من قوى ومحاور ان يملأوه. وقيل انّ الجانب الخليجي سمع في هذا المجال ملاحظة ابداها الرئيس الفرنسي للمسؤولين الذين التقاهم.
وفي هذا السياق، يقول قطب سياسي بارز «انّ منشأ الحركة الفرنسية في الاقليم كان انّ باريس تحاول ان تؤدي دوراً يمكنها من ملء الفراغ الحاصل بعد الانسحاب الاميركي في المنطقة، التي تعيش مجموعة من الحروب والازمات، ومن ضمنها وضع لبنان الذي تفاقم وتعكّر صفوه كثيراً نتيجة الازمة الديبلوماسية التي نشأت بينه وبين السعودية، وهو ما جعل الفرنسي يستشعر خطورة استمرار هذه الازمة، فطلب من الجانب اللبناني تسليفه ورقة استقالة الوزير جورج قرداحي الذي كانت تصريحاته السبب المباشر الذي دفع الرياض الى قطع العلاقات الديبلوماسية مع لبنان، فكان له ما اراد، وأقنع بهذه الورقة الجانب السعودي بالتهدئة واعادة وصل ما انقطع مع لبنان، محذّراً ايّاه من انّ خروج السعودية من لبنان سيؤدي حتماً الى سقوطه في «القبضة الايرانية»، ودعاه الى التعاون معاً للحؤول دون ذلك. ويبدو انّ الجانبين توافقا على ذلك، بدليل كلام ماكرون بعد محادثاته مع ولي العهد السعودي عن «مبادرة فرنسية ـ سعودية لمعالجة الازمة بين الرياض وبيروت»، مؤكّداً انّهما ابلغا الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عندما اتصلا به هاتفياً «انّ فرنسا والسعودية تريدان دعم الشعب اللبناني».
والى ذلك، يعتقد المعنيون ومعهم فريق من السياسيين، انّ زوال القطيعة بين بيروت والرياض، وبغض النظر عمّا ستتخذه الحكومة من اجراءات لتطبيع العلاقات مع الرياض، سيرسي مناخات هادئة يحتاجها الجميع في الداخل والخارج، ليذهبوا الى خوض الانتخابات النيابية لاقتناعهم انّ التغيير المطلوب الذي قد لا يتحقق الآن، يمكن هذه الانتخابات بنتائجها ان تحققه، خصوصاً انّ كل المؤشرات تدل الى انّ الحكومة تعتبر انّ هذا الاستحقاق اساسي بالنسبة الى مستقبل البلد، لكن رئيس الحكومة غير مرتاح لأداء ومواقف بعض الكتل النيابية الذي يعتبره معطلاً لإجراء بعض الاصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي ومنها قانون «الكابيتال كونترول». ولذلك هو يرغب في ان يتمّ تسهيل مهمات الحكومة والّا فإنّ الازمة ستبقى في مرواحة، وينغمس الجميع في الانتخابات التي يبدو انّها باتت الاولوية الكبرى لدى الجميع، الى درجة انّ قوى سياسية على خصام كبير في ما بينها، تتلاقى مصالحها الانتخابية وربما غير الانتخابية، على تعطيل اصلاحات، غير آبهة بمصير البلد ومستقبله.