كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
لم تنته جولة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الخليجية الى تحريك المياه الراكدة على خط بيروت ـ الرياض فحسب، إنما فرضت بندا إضافيا على جدول اعمال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في جولته المماثلة. فمنذ ان بدأها من مسقط، كان للبنان بند خاص في البيان الختامي المشترك. وإن قيل انّ بن سلمان يكمل مهمة ماكرون، فما هو المطلوب المنتظر من لبنان والمستهدفين بالمبادرة؟
كان من الطبيعي ان تعكس النتائج التي انتهت اليها جولة ماكرون الخليجية حراكا داخليا لبنانيا أقوى واشد واكثر حيوية وحدّة مما شهدناه على الساحة اللبنانية، لو ان اللبنانيين اقتنعوا بأن ما دعا اليه ماكرون بالتكافل والتضامن مع ولي العهد السعودي مطلوب من جميع قادتهم ومسؤوليهم. وطالما ان مثل هذه التوقعات لم تتحقق، فقد بات واضحاً انّ ما طالبَ به الطرفان السعودي والفرنسي لم يلق اهتمام المستهدفين به. فالمنطق يقول ان ما طالب به البيان المشترك معطوفا على تغريدات ماكرون والبيان الصادر عن الديوان الملكي يُعفي رئيس الحكومة وحده من أطراف المنظومة السياسية الحاكمة ويلقي المسؤولية على البقية بمن فيهم ممثلو محور الممانعة و»حزب الله».
وبمفهوم الديبلوماسيتين بما لا يرقى اليه شك، وعند قراءة ردات الفعل الداخلية والاقليمية والدولية يبدو ان ما صدر يلقي المسؤولية على القيادات التي انتظمت لتقويض المساعي المبذولة لاستعادة الحد الادنى من حال «النأي بالنفس» التي سادت لسنوات عدة تلت التوصل الى إعلان بعبدا الذي صدر في 11 حزيران 2012، كنتيجة لطاولة الحوار بين هيئة الحوار الوطني اللبناني التي شكلها الرئيس ميشال سليمان وتم التوافق فيها على مجموعة من العناوين الكبرى التي ما زالت مطروحة حتى اليوم. فهي دعت يومها الى «إبعاد لبنان عن لهيب المنطقة والازمة السورية تحديدا»، و»التزام نهج الحوار والتهدئة الأمنية والسياسية والإعلامية والسعي للتوافق على ثوابت وقواسم مشتركة».
كان ذلك قبل ان تتبدّل الصورة وتنقلب الاوضاع رأسا على عقب ما ادى بسليمان يومها الى إدانة الاعتماد على «الثلاثية الخشبية» عندما سأل المقاومة صراحة «اذا طلبَت اذن الجيش والشعب للذهاب الى سوريا؟»، في خطاب «يوم الارض» في الكسليك قبل ايام قليلة على مغادرته مكتبه في قصر بعبدا للفراغ القاتل في 25 أيار 2014. وهكذا بقيت الأمور معلقة إلى ان كرّس العهد الجديد بعد تسوية العام 2016 على اعتماد نهج جديد وضع لبنان في قلب محور الممانعة تدريجا وربط الساحة اللبنانية بالساحات الملتهبة السورية والعراقية واليمنية خصوصا، فبات لبنان بكل قواه ومواطنيه ومؤسساته هدفا للعقوبات.
ثمة من يلقي المسؤولية منذ ذلك التاريخ على العهد في ما حصل، بعدما أصرّ على دور المقاومة بديلا من الجيش والقوى العسكرية والامنية الشرعية حيث لا تستطيع ان تقوم بمهماتها في مواجهة العدو الاسرائيلي بعدما نجحت العهود السابقة في إبعاد المسؤولية عن الحكومات ورئيس الجمهورية والمؤسسات الرسمية والتبرؤ ممّا يقوم به «حزب الله» الى درجة كبيرة. فما زال مضمون كتاب الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة الى المجتمع الدولي والإدارة الأميركية مساء 12 تموز 2006 يرن في آذان سامعيه عندما اعتبر ان حكومته لم تكن على علم بـ»عملية خطف الجنديين الاسرائيليين في الجنوب». مطالبا المجتمع الدولي بإعفاء لبنان الرسمي من اي تبعات خطيرة قادت الى حرب الايام الـ 33 ولم تنته الا في 12 آب بصدور القرار الدولي الرقم 1701 الذي شكّل سببا اضافيا يحتّم على لبنان الابتعاد عن المحاور الاقليمية طيلة السنوات التي اعقبت تلك الحرب المدمرة.
وتعترف مراجع سياسية وديبلوماسية ان ما قادت اليه نتائج الجولة الماكرونية ما زالت مبنية على هذه الخلفيات، حتى ان البيانات التي صدرت من بعدها أعادت الى الأذهان ضرورة العودة الى تلك الاستراتيجية التي وفّرت مظلة دولية حامية للبنان افتقدها تدريجا منذ العام 2016 وبلغت مداها اقتصاديا ونقديا قبل عامين تقريبا. وجاء صمت «حزب الله» حتى اللحظة تجاه المواقف الخليجية والفرنسية والدولية ليزيد من حال القلق على مصير الجهود الدولية التي ظَلّلت الحراك الفرنسي في المنطقة. وما زاد من منسوب الخوف على المستقبل القريب والبعيد النتائج الغامضة والمحدودة التي انتهت إليها الجولة السادسة من مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني ووضعت «حزب الله» في موقف المنتظر لنتائجها قبل ان ينطلق في أي تغيير محتمل لخططه في لبنان والخارج حيث امتدت قواه وخبراته المختلفة الوجوه التي أثارت الخليجيين ومعهم المجتمع الدولي.
ومن هذه المعطيات تنطلق المراجع عينها في قراءة التطورات الجديدة، فاعتبرت ان الجهود التي يقودها رئيس الحكومة وحيداً لا تفيد في شيء، فليس هناك ما يوحي بتسهيل المهمة. وان نتائج اجتماعات اللجان الوزارية لن تؤتي النتيجة المرجوة طالما ان بعض المعابر الحدودية البرية والبحرية وربما الجوية منها غير ممسوكة بما فيه الكفاية لتطبيق ما يتخذ من قرارات. اضف الى ذلك انّ الشلل المتعمّد للحكومة لدى ثنائي حركة «امل» و»حزب الله» يعمّق الفشل ويزيد من نسبة العجز في تغيير هذا الواقع، فيما البلد يتجه الى مدار الانتخابات النيابية ما يوحي بانجراف سريع نحو مزيد من الفوضى السياسية، وربما الدستورية، لإعاقة الطريق الى العملية الانتخابية.
لا تخفي المراجع الدولية فهمها لهذه الوقائع، وجاءت رسالة الرئيس الفرنسي لرئيس الجمهورية في شكلها ومضمونها لتوحي أنه لن يستطيع تقديم العون على «بساط احمدي». فهناك امور عدة على لبنان الرسمي القيام بها وإن عجز عنها قبلاً فإنها مطلوبة بالسرعة القصوى. ولكن ليس هناك ما يوحي بوجود قرار بتغيير النهج المعتمَد لألف سبب وسبب. ولذلك ساد جو سلبي نتيجة تمنع ماكرون عن مخاطبة عون هاتفياً وتأجيله الى مرحلة لاحقة، الى ان يثبت انّ هناك إمكانية لتطبيق الحد الادنى مما هو مطلوب.
وعليه، لا بد من الإشارة إلى انّ المراجع الديبلوماسية تراقب بدقة نتائج جولة ولي العهد السعودي الخليجية التي اضافت اليها زيارة ماكرون بندا خاصا بلبنان، وهو ما اشار اليه البيان المشترك بعد زيارة مسقط. وذلك لفهم التوجهات الجديدة إن وجدت، بما يوحي انّ بن سلمان يواصل مهمة ماكرون في دول لم تشملها جولته الاخيرة وإن النتائج لا تتوقف عليها، إنما على ما يمكن ان ينجزه لبنان وهو مَدعاة انتظار ثقيل وقلق عميق يوحي ان البلاد لن ترتاح وستنزلق اكثر الى ما هو أسوأ.