Site icon IMLebanon

تجارة البشر تزدهر… من يفرِّغ الفيحاء من أهلها؟

كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:

بدون دويّ المدافع، وبلا أزيز الرصاص.. طرابلس تنفجر فتقذف بأبنائها نحو جهات الأرض الأربع، لأنّها لم تعد تطيق صبراً على ضيق الحال ولا على التهميش والإفقار، ولا على عجز رئيس حكومة يدعي بها وصلاً، لكنه لا يعرف كيف يمدّ إليها يد الغوث، ولأنّها لم تعد تتحمّل نواباً يتبخّرون في الأزمات، حتى أصبح أبناء الفيحاء لقمة سائغة لسماسرة تجارة البشر الذين يرمون بهم عبر البحار ويسوّلون لهم الالتحاق بالمنظمات الإرهابية، فتنزف المدينة أبناءها نحو أمواج الموت وخلايا التطرف.

“حدود الكتابة” بين الحقيقة والدعاية السوداء تقف الكتابة حول طرابلس عند حدّين:

الأول: الحرص على عدم نشر دعاية يستغلها طرف الممانعة للإمعان في تشويهها والبناء على ما نكتب للادعاء بأنّ المدينة موئل للتطرف.

الثاني: أنّه لا بدّ من الإضاءة على الظواهر المقلقة والخطرة، التي لا تشكّل إلاّ نسبة ضئيلة من المجتمع، لكنّها كافية لاستدراجٍ أمني يؤذي المدينة.

لهذا، فإنّ السياق الذي يحكم مقاربة هذا الملف هو سياق حسّاس، يجمع بين الحرص على الفيحاء وبين ضرورة التحذير من أيّ ظاهرة يمكن أن تؤذيها، ولا يعيب المجتمعات ظواهرٌ سلبية، ما دام يسعى لمكافحتها والتخلّص منها.

يتجاهل المسؤولون حقيقة ما يحصل في طرابلس من اضطراب هائل صامت يسيطر على المدينة، ويغمضون أعينهم عن موجات الهروب الكبير الذي يجتاحها ويستنزف أبناءها بشكل غير مسبوق، نحو مصائر محفوفة بالمهالك مع اندفاع الناس لبيع كلّ ما تملك لتحصل على مكان في مراكب الموت، هم وأطفالهم وزوجاتهم، بينما يتخفّى شبابٌ آخرون عن الأهل ويتسلّلون بالمئات، ميمِّمين وجوههم شطر «تنظيم الدولة» معتقدين أنّهم سيجدون لديه النجاة والقوة المفقودة لأهل السنة في لبنان.

مدينة تخسر روحها

هذا هو واقع طرابلس اليوم: مدينة منكوبة تخسر روحها وحياة أبنائها بأبشع الطرق وأشنع الوسائل، وتراكمُ الأحداث وتصاعدُ الأرقام يعطي فكرة واضحة عن حجم الأزمة المدفون تحت غبار العجز والصمت المُريب، وفي آخر هذه الوقائع ما كشفه بيان الجيش اللبناني بتاريخ 19 /11 /2021 وجاء فيه أنّه «بعد توافر معلومات لمديرية المخابرات عن امكان حصول عملية تهريب اشخاص عبر البحر، قامت دورية تابعة للقوات البحرية بمطاردة مركب يعود للمواطن (م.ب.) في المياه مقابل بلدة القلمون وعلى متنه ٩١ شخصاً (لبنانيون وسوريون وفلسطينيون) وبينهم أطفال ونساء، أثناء محاولة تهريبهم  بطريقة غير شرعية.. وقد أوقفت الدورية المذكورة المركب الذي كاد أن يغرق بسبب سوء الأحوال الجوية وانقذت كل من كان على متنه وتمّ نقلهم إلى الشاطئ وتقديم الإسعافات اللازمة لهم، وبوشر التحقيق باشراف القضاء المختص».

نستذكر في هذا السياق، كارثة مركب الموت في شهر أيلول 2020 عندما اضطر ركابه لرمي اثنين من أبنائهم في البحر بعد أن قضيا جوعاً وإنهاكاً تحت وطأة الشمس الحارقة، وحكايات لا تنتهي عن العذاب والرعب الذي عاناه ناجون عادوا إلى حياة يعتبرونها مساوية للموت.

ثمّة إشكالية كبرى هنا، وهي أنّ معظم شبكات التجارة بالبشر تعمل في مساحة تغطية تسمح لها بالإفلات من الملاحقة، لذلك نرى في معظم الحالات القبض على الضحايا وتجاهل المنظمين، مما يرجّح وجود غطاء كبير لهؤلاء الذين يقومون بتفريغ طرابلس ومحيطها من أهله بشكل منظّم، في ظلّ جهود أمنية مضنية للجيش وتراخٍ قضائي قاصر عن مكافحة ظاهرة الاتجار بالبشر المتفشية والتي بات لها «رموز» يُمنع الاقتراب منهم.

من يستمع إلى روايات العائلات التي أنقذها الجيش في الأيام القليلة الماضية، يدرك مدى اليأس الذي يجتاح أهل طرابلس، فهؤلاء باعوا كلّ ما يملكون، وهو البسيط من حطام الدنيا، ليحظوا بمقعد في مركب متهالك، الصعودُ فيه أقرب إلى الموت من النجاة، وهؤلاء في محنة لا تنتهي، فكيف سيستأنفون معيشتهم بعد أن باعوا ما يملكون وذهب ثمنه للمهرِّبين، وكيف سيستطيعون تأمين شيء من أساسيات الحياة بعد أن زاد بؤسهم بؤساً وفقرُهم فقراً.

البؤس في طرابلس يطوي بعضه بعضاً

لكنّ حكايات البؤس تطويها حكايات أخرى أشدّ بؤساً تتراكم على صفيح الامتدادات العشوائية للمدينة، من حارة التنك في الميناء إلى حارات التبانة والقبة والبيوت المتهالكة في المنكوبين ووادي النحلة، حيث تنبت الأفكار البائسة وتتوسع الطموحات الانتقامية من المجتمع.

في واقعة أخرى، تحتجز السلطات التركية مجموعة من الشباب المهاجرين من أبناء منطقة التبانة الذين تمّ إنقاذهم من الغرق وهم في طريقهم إلى أوروبا، وصدرت مناشدات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للإسراع في الإفراج عنهم وإعادتهم إلى أهلهم، من دون أن يسجل أي تحرّك جدّي من السلطات اللبنانية لاسترداد مواطنيها، بينما قام أهلهم بقطع الطريق بين طرابلس والميناء للمطالبة باستعادة أبنائهم.

وصل الشتات الطرابلسي إلى النقطة الساخنة على الحدود بين روسيا البيضاء وبولندا، وأرسل عدد منهم مقاطع مصوّرة تُظهر الجحيم الذي يعانيه العالقون على تلك الحدود، وقد قضى عددٌ من العالقين نحبه في ظروف مناخية وأمنية شديدة القسوة.

في السياق نفسه، أظهرت أخبار التواصل الاجتماعي وصول مئات العائلات الطرابلسية إلى إيطاليا، وتمكّنها من دخول الأراضي الإيطالية، ورغم نجاتها، غير أنّ الأعداد المغادرة باتت مخيفة، بعد غياب عائلات بكاملها في إطار النزف البشري المستمرّ.

لا تغطّي المعلومات المعلنة من قبل الأجهزة الأمنية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حجم وحقيقة التهجير الذي يضرب طرابلس وعكار بشكل خاص، لأنّ العائلات والأفراد الذين يغادرون بطريقة غير شرعية لا يعلنون بالضرورة وصولهم إلى وجهاتهم التي يقصدونها، فهم يختفون من الأحياء والشوارع بصمت وبلا تعليق.

أرقام مخيفة

لا توجد إحصاءات يمكن الركون إليها لقياس منسوب التفريغ السكاني الحاصل نتيجة الهجرة الشرعية وغير الشرعية من مناطق الشمال، التي «يصدف» أنّها الوحيدة التي تسود فيها موجات الهجرة الجماعية عبر البحر ومن خلال الحدود، لكن ثمة من يتحدث عن وصول أرقام المغادرين، قانونياً وتهريباً، إلى 300 ألف من مناطق الشمال، منذ 17 تشرين الثاني 2019 حتى اليوم.

يكشف استعداد الناس للموت في طرق التهريب البرية نحو داعش، والبحرية نحو الغرب، مدى اليأس الذي تمكّن من النفوس، وهو بات يأساً جَماعياً مُعدياً، ويُظهر مدى نجاح المسؤولين الذين تولَّوا أمانة تمثيل طرابلس وجوارها، في خلق البيئة النموذجية للتهجير الجماعي الحاصل، من دون قتال ولا مدافع، وكأنّه التهجير البديل عمّا حصل في سوريا والعراق.

ثمة سؤال مقلق يفرض نفسه هنا: لماذا تقتصر موجات الخروج الجماعي على طرابلس وعكار، ولا نرى هذه الظاهرة في بيروت أو جونية أو جبيل، أو حتى في صيدا أو البقاع، وما هو أثر هذا الواقع في إطار الحسابات الديمغرافية والاستراتيجية؟

لا مبادرات للحدّ من التهجير القسري لأهل طرابلس ولا خطوات سوى إجراءات أمنية لا تكفي وحدها نظراً لغيات العلاج الاجتماعي والاقتصادي، لتتكامل دائرة الاستنزاف بإطلاق موسم الهجرة الآخر إلى «داعش»، وكأنّ المطلوب التسليم بأنّ المدينة أصبحت مكاناً غير صالح للعيش، ومنها رئيسُ حكومة قال ذات يوم: ممنوع أن يجوع أحد في طرابلس، ونوابٌ طالما دبّجوا برامج انتخابية برّاقة وزعيمٌ غائب سبق أن وعد بأكثر من 900 ألف وظيفة!