كتب جوني منير في “الجمهورية”:
يتعايش المسؤولون اللبنانيون مع احتمال ان يطول موعد عودة الحكومة للانعقاد، فالسبل الآيلة لإيجاد مخرج للشرط الذي وضعه الثنائي الشيعي حول تحقيقات المرفأ التي يجريها القاضي طارق البيطار باتت مقفلة، مع تمسّك «التيار الوطني الحر» بعدم تصويته لصالح «الهيئة العليا لمحاكمة الرؤساء والوزراء»، والاكتفاء بقبوله بتأمين ميثاقية الجلسة من خلال حضور كتلته النيابية.
ولا شك بأنّ حسابات الانتخابات النيابية إضافة الى الاستحقاق الرئاسي المقبل، تتداخل مع الأزمة الحكومية المفتوحة. أضف الى ذلك، انّ الأجواء الخارجية الملبّدة لا تسمح بتدوير الزوايا لا بل على العكس.
وخلال جولة ولي العهد السعودي الخليجية، كان لبنان حاضراً في جميع البيانات المشتركة وفق الرؤية التي رسمتها المملكة. وهنا لا بدّ من تسجيل ملاحظتين:
الاولى بأنّ الكويت، التي كانت تتمايز تجاه لبنان عن المواقف السعودية المتشدّدة، بدت وكأنّها اصطفت تحت السقف الذي رسمه ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان.
والثانية، انّ كلاً من قطر وسلطنة عُمان بدتا متمايزتين بشكل معقول حيال الملف اللبناني. فالجولة الخليجية أوحت وكأنّ الخرق الذي حققه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خلال زيارته الاخيرة الى السعودية، تبدّد وانتهى.
لكن التواصل الذي حصل بين باريس وبيروت اظهر انّ المسؤولين الفرنسيين ما زالوا على تفاؤلهم بأنّ العلاقات الديبلوماسية بين لبنان والسعودية ستعود، ومعها العلاقات مع دول الخليج، لكن على مستوى القائم بالأعمال وليس السفير، شرط قيام لبنان باتخاذ خطوات كانت قد طلبتها السعودية، وتتعلق بضبط وتأمين المعابر البحرية والحيوية وخصوصاً البرية.
الواضح انّ السعودية لا تسعى لإعادة العلاقات الى طبيعتها على مستوى السفراء، الّا بعد حصول الانتخابات النيابية. وليست السعودية وحدها من ينظر الى الاستحقاق النيابي كمحطة سياسية اساسية، ستشكّل منعطفاً في مستقبل لبنان. فخلال الصيف الماضي حصل تفاهم اميركي – اوروبي على ضرورة إجراء الانتخابات النيابية اللبنانية ومنع تعطيلها لأي عذر كان، ويومها اتُخذ قرار على مستوى الاتحاد الاوروبي يقضي اولاً بالمساعدة في مراقبة نزاهة سير العملية الانتخابية، وثانياً بالاستعداد للمساعدة في سدّ الثغرات المالية لإتمام العملية الانتخابية بسبب حال الانهيار المالي الذي تعيشه الدولة اللبنانية، وكي لا يشكّل هذا الواقع عذراً لإلغاء الانتخابات او في افضل الاحوال لتأجيلها.
اوساط ديبلوماسية معنية تقول بأنّ الموقف الاوروبي والدولي حيال الاستحقاق النيابي اللبناني ليس جديداً، وهو يعود الى العام 2005، حيث خاض لبنان اول استحقاق انتخابي بعد خروج الجيش السوري من اراضيه. يومها جاء مراقبون اوروبيون واميركيون، وهو ما تكرّر في العام 2009.
لكن هذه «البراءة» في تفسير الاهتمام الدولي بالانتخابات النيابية المقبلة لا تبدو مقنعة بالنسبة لكثيرين، فالواضح انّ هنالك رهاناً على ان تكون محطة ايار المقبلة ممراً على طريق تثبيت توازنات لبنانية داخلية جديدة، من المفترض ان تشكّل منطلقاً للتأسيس لطبقة سياسية جديدة وواقع سياسي جديد، في وقت تجري فيه إعادة رسم الخارطة السياسية الجديدة لكامل الشرق الاوسط.
ومن هنا لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار موافقة السعودية خلال زيارة ماكرون على تقديم مساعدات للبنان، ولكن ليس من خلال مؤسسات الدولة الرسمية، وهو الموقف نفسه الذي تبنّاه سابقاً الاتحاد الاوروبي والرئيس الفرنسي نفسه خلال زيارته لبيروت بعد انفجار المرفأ، اضافة الى الولايات المتحدة الاميركية والمؤسسات الدولية. وهو ما يعني سقوط الرهان نهائياً على التركيبة السياسية الحاكمة. أضف الى ذلك، المؤشر حول حصر الاتصال الهاتفي لماكرون وبن سلمان برئيس الحكومة نجيب ميقاتي فقط، وعدم اتصال الرئيس الفرنسي بالرئيس ميشال عون رغم إعلانه عن ذلك بعد مغادرته السعودية.
وثمة ما هو أبعد من ذلك، وهو ما يتعلق بوجود تفاهم بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» للذهاب الى المؤتمر التأسيسي وتثبيت جمهورية المثالثة. ويضع المراقبون الكلام الذي ردّده رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل حول تأييده للمداورة في الرئاسات في هذا الإطار.
والواضح انّه بعد الانتخابات النيابية ستُفتح ورشة مفاوضات حول لبنان الجديد، والنظام السياسي الذي يعتمده.
وإذا كانت الانتخابات النيابية تحتاج الى «ضمانات» من المفترض ان يكون خط التواصل المباشر بين السفارة الفرنسية و»حزب الله» هو الممر اليها، إلّا أنّ طرح المشاريع حول صيغة الحكم المقبلة ستحتاج الى ورشة اكبر ستشهدها مرحلة ما بعد تثبيت المجلس النيابي المقبل بتوازناته الجديدة، وهو ما قد يتطلب بعض الوقت، لذلك ترتفع ترجيحات الفراغ الرئاسي.
الثابت انّ الاوروبيين وخصوصاً الاميركيين، يرفضون المساس بالصيغة السياسية وتوازناتها العريضة القائمة حالياً. وقد يكون المطروح إعادة العمل بترتيب جديد للمسار الحكومي، بما معناه تفاهمات وترتيبات اكثر واكبر من «الدوحة»، لكنها بالتأكيد لن تصل الى حدود «طائف» جديد.
في الواقع، تتمسّك العواصم الغربية بقرارها بعدم مغادرة لبنان او بجعله ثمناً لتسويات المنطقة. والمؤشرات الاميركية عديدة، بدءاً من «سوبر السفارة» الجاري إنجازها، والتي تعيد الى الأذهان الدور الاقليمي الذي كانت تلعبه السفارة الاميركية في مرحلة ما قبل الحرب اللبنانية.
اضافة الى قرار واشنطن بتخصيص موازنة مالية لتوسيع وتحديث مطار حامات العسكري ومدرجه، ليصبح اكثر قدرة على استقبال طائرات الشحن العسكرية. وصولاً الى رفع مستوى المساعدات للجيش اللبناني وانتهاءً بالترتيبات الموضوعة لحدود لبنان البحرية وخصوصاً البرية.
وفي موازاة ذلك، سيعمل الاتحاد الاوروبي من خلال فرنسا، على تولّي امر التفاصيل اليومية وإعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية الى جانب مؤسسات الامم المتحدة. وأفيد في هذا المجال مثلاً، بأنّ صندوق النقد الدولي، والذي سيشرف مباشرة على إعادة بناء وتركيب بعض المؤسسات الرسمية، استأجر مقراً جديداً له في احدى ضواحي بيروت، تمهيداً وتحضيراً للمرحلة المقبلة. لكن هذا لا يعني انّ مرحلة البحث والتفاهم حول هذه العناوين ستكون هادئة، لا بل قد تكون صاخبة جداً، تلك المرحلة الفاصلة ما بين ولادة مجلس نيابي جديد وما قبل ولادة رئيس جديد للجمهورية من المفترض ان يتولّى تطبيق التفاهمات التي ستحصل والتي سيكون «حزب الله» طرفاً رئيسياً فيها، اضافة الى حكومة ستكون آلية عملها خاضعة للتفاهمات التي من المفترض ان تكون قد حصلت. والأهم انّ المدخل الرئيسي لكل هذا المشروع هو بإنجاز التفاهم النووي بين الولايات المتحدة الاميركية وايران. وربما لذلك تتعمّد ايران المماطلة كثيراً، ما جعل البعض يشكّك بحتمية التوصل الى اتفاق. لكن رغم ذلك، فإنّ الاوساط الديبلوماسية الاميركية والاوروبية وحتى الروسية، تعتقد بأنّ الاتفاق سيحصل وانّ الحرب غير واردة رغم التلويح بها.
وفي هذا الإطار جاءت رسالة قصف ميناء اللاذقية معبّرة جداً، وفي مستوى رسالة مصادرة الأسلحة الايرانية المتوجّهة الى الحوثيين في بحر العرب. وبخلاف الكلام الصادر عن السوريين والإيرانيين، فإنّ مصادر غربية مطلعة تروي بأنّ الغارة استهدفت مواد عسكرية ومهمّة، كان من المفترض ان تكون تحت الحماية الروسية. وتروي هذه المصادر، انّ الاسرائيليين الذين وضعوا القيادة العسكرية الروسية في اجواء تنفيذ غارة في الشمال السوري، لم يبلّغوا القيادة الروسية الموقع المستهدف بالتحديد، ذلك انّ هذه الغارة شكّلت إحراجاً كبيراً لروسيا، وهي التي لا تزال تنسّق وتعمل مع الجانب الايراني في سوريا. فالغارات على مواقع اخرى، أكانت في الجنوب السوري او حتى في الشمال من الممكن تبريرها، لكن استهداف ميناء اللاذقية مباشرة وهذا النوع من الاسلحة العسكرية يشكّل إحراجاً واضحاً لروسيا.
لكن الرسالة واضحة وتقول، بأنّ استهلاك المزيد من الوقت قبل إنجاز التفاهمات المطلوبة لا يلعب بالضرورة لمصلحة ايران.
طبعاً هذا الوضع السلبي، أكان على مستوى عرض العضلات العسكرية والرسائل الحربية في الشرق الاوسط والتعثر الذي يحيط بمفاوضات فيينا، لا يساعد في تبريد الجبهات اللبنانية وإعادة تسيير آلية عمل الدولة بالحدّ الادنى. ولا يساعد ايضاً في تبريد الحماوة التي طرأت على العلاقات اللبنانية – الخليجية.
وهو ما يعني إجازة طويلة للحكومة، ومزيداً من التآكل لمؤسسات الدولة المهترئة اصلاً.