كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
لم يعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يراهن على شيء أو على أحد في لبنان. فهناك الذين وعدوه بالتجاوب مع مبادرته، من باب المناورة، وقد تراجعوا. وهناك الذين يريدون التجاوب فعلاً، لكنهم عاجزون. ولذلك، لا يَخدع ماكرون نفسه بأي توقّعات من زيارة موفده بيار دوكان لبيروت. إذاً، لماذا يأتي دوكان، ولماذا «عناد» ماكرون بالاستمرار في المبادرة؟
إذا أُجريت الانتخابات النيابية اللبنانية، قبل 21 أيار، موعد انتهاء ولاية المجلس (ولم يتمّ تطييرها)، فسيكون ماكرون أيضاً منهمكاً في انتخاباته الرئاسية والتشريعية.
العام 2022، ستكون بدايته حامية في فرنسا. فالجميع يستعد للانتخابات هناك: في 10 و24 نيسان، اقتراع على رئيس جديد. وفي 14 أيار، ينهي ماكرون ولاية السنوات الخمس في الإليزيه، وليس معروفاً مدى امتلاكه الحظ بولاية جديدة. وفي منتصف حزيران، سيخوض الفرنسيون انتخابات تشريعية قد تقلب التوازنات في الجمعية الوطنية.
يعتبر البعض أنّ ماكرون يستهلك اليوم وقته المتبقي في أزمات لبنان والشرق الأوسط، قبل الإنكباب على مشاغله الداخلية. ولكن، في الواقع، هذه الأزمات هي جزء من المشاغل الفرنسية الداخلية، وتأثيراتها حيوية على موقع فرنسا وعلى وضع ماكرون الداخلي، بما في ذلك حظوظه بولاية جديدة.
ففرنسا ليست بلداً كبيراً، كالولايات المتحدة الاميركية مثلاً. وفيها يستطيع المرشح للرئاسة أن يوفّر لنفسه حظوظاً كبيرة في الفوز إذا قدَّم إلى الرأي العام إنجازات مقبولة. وهذا ما يحاول ماكرون أن يفعله اليوم بحراكه الشرق أوسطي، والصفقات التي عقدها في الخليج، والدور في لبنان، والاتصالات مع إيران.
الفرنسيون يجهدون اليوم للحفاظ على مصالحهم الشرق أوسطية التي يهدّدها التنافس الأميركي – الإيراني وتَنامي نفوذ القوى الإقليمية، ولا سيما منها تركيا وإسرائيل. وهم يستعدون خصوصاً لأي اتفاق مفاجئ قد يتوصل إليه المتفاوضون في فيينا، وبنتيجته يُرفع الحظر الأميركي عن إيران. فتلك فرصة الفرنسيين لكي يكرِّروا تجربة 2015.
آنذاك، عندما تمّ إبرام الاتفاق النووي في ظلّ ولاية الرئيس باراك أوباما، استفاد الأوروبيون، والفرنسيون والألمان خصوصاً، من رفع الحظر عن الأموال والشركات والاستثمارات الإيرانية. ويمكن القول إنّ الأوروبيين حصدوا ثمار ما زرعه الأميركيون.
وعندما وصل دونالد ترامب إلى الحكم، اتهم الأوروبيين بمساعدة إيران «من تحت الطاولة»، وتمكينها من بيع نفطها والحصول على دولارات استخدمتها في تمويل أجنحتها العسكرية في الشرق الأوسط وتدعيم نفوذها. وكان ترامب مستاء من استمرار «التواطؤ» الأوروبي حتى عندما انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي.
ويحرص ماكرون على مناخ من الثقة مع إدارة الرئيس جو بايدن. ولكن، تحت سقف التحالف بين الطرفين، يسعى كل منهما إلى توسيع حجم المكاسب الخاصة. وإذ يعتبر الفرنسيون أنّ إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأوستراليا هو «طعنة في الظهر» من جانب الولايات المتحدة، يقول الأميركيون إنّ الفرنسيين سبّاقون في طعنهم، بتحالفهم المستتر مع إيران.
ولذلك، سيعمل ماكرون في الأشهر القليلة المتبقية من عهده على تدعيم رصيد فرنسا، وتالياً رصيده الانتخابي، من خلال مكاسب يرمي إلى تحقيقها في الخارج. وهو حقّق فعلاً نجاحات في مجال الطاقة والاستثمارات، من الخليج العربي إلى خط أنابيب الغاز المتوسطي نحو أوروبا إلى الامتيازات الممنوحة لشركة «توتال» في لبنان، لكنه أصيب بنكسات متتالية في المجال السياسي، في منطقة تخوض فيها الولايات المتحدة وإيران نزاعاً مريراً للسيطرة، وبينهما إسرائيل.
ومن سوء حظ الفرنسيين أن يكون لبنان، الذي يعتبرونه حديقتهم الشرق أوسطية الصغيرة، حقلاً أساسياً في هذا النزاع. وفي الواقع، ليست لفرنسا أوراقاً قوية لتلعبها في لبنان وتمكّنها من فرض حضورها.
فالإيرانيون يمتلكون السلاح والغالبية في السلطة، فيما الأميركيون قادرون على التأثير في الخيارات المالية والعسكرية وفي ملف التفاوض مع إسرائيل. وأما الفرنسيون فيكتسبون حضورهم فقط من مبادرتهم إلى الحلّ السياسي وإجماع القوى اللبنانية على القبول بدورهم. ولذلك، لا يريد ماكرون في أي شكل إنهاء هذه المبادرة، ما دامت تعني خروجهم من لبنان.
ويبدو ماكرون في لبنان كشخصٍ يقود الدراجة، ولا يستطيع التوقف عن دفعها إلى الأمام لئلا تفقد توازنها، فيسقط أرضاً. وفي السياسة، يعني ذلك أنّ ماكرون الذي كان يُفترض أن يُصاب بالإحباط منذ مؤتمر «سيدر» 2008، ومنذ زيارتيه لبيروت بعد انفجار المرفأ، لن ييأس. وهو حتى لن يغضب، على رغم «الكذب» المكشوف الذي يمارسه أركان منظومة السلطة.
ولذلك أيضاً، سيواصل دوكان زياراته، وسيجول على المسؤولين مهدّداً إيّاهم، وكأنّه المفوض السامي. لكنه وماكرون يعرفان أنّ عصر الانتداب الفرنسي انتهى لمصلحة انتدابات أخرى.