IMLebanon

فنان لبناني يؤرّخ دوام الزوال البيروتي في معرض باريسي

كتبت ميموزا العراوي في “العرب اللندنية”:

احتضنت العاصمة الفرنسية باريس في السنتين الأخيرتين عددا من المعارض الفنية الافتراضية وغير الافتراضية والفردية والجماعية على حد السواء؛ معارض تناولت في معظمها لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص من منظار فنانين لبنانيين وغير لبنانيين. وها هي تقدّم مؤخرا معرضا كبيرا للفنان التشكيلي اللبناني إيلي رزق الله تحت عنوان “بيروت في المنظور“.

“بيروت في المنظور” هو معرض فني جديد للتشكيلي اللبناني إيلي رزق الله، عرضته مؤخرا صالة “أغادو” في الدائرة الباريسية التاسعة.

ثلاثون عملا فنيا بأحجام مختلفة استعرض عبرها الفنان رزق الله مشاهد من شوارع ومنازل ومبان بيروتية بدت في معظمها غارقة في محلول لوني متعدّد الأحوال والكثافة انسكب من عين الفنان الغارقة في انطباعات وجدانية حالت دون أي استعراض لهندسيات مدينة هي دوما، وكما عرفها الفنان، من ناحية على شفير الولادة والموت وكأنهما حالة واحدة، ومن ناحية أخرى متلاحمة مع الزمن وكأنه مكان بحد ذاته وموطئ عبور مسّه حزن شخصي.

هنا يمكن القول بأن أعمال إيلي رزق الله الجديدة مازالت تجسّد مدينة بيروت كمدينة “زوالية” تثير القلق حتى في أيامها الخالية من التشنجات والراضخة لفعل التدمير البطيء وغير المباشر حينا والمُباشر حينا آخر، والذي تمثل في انهيار القيم الإنسانية، تلك القيم التي ترسّخت بداية في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، حين كانت شرفاتها تطل على النور وأشجار الرصيف، مرورا بسنين الحرب الأهلية التي لم يخسر فيها المواطن المدني التعاطف مع الآخر، وصولا إلى  منتصف التسعينات.

ويقول النص المرافق للمعرض “بيروت في المنظور”، ويدعونا من خلاله الفنان التشكيلي اللبناني إيلي رزق الله إلى رحلة في مدينة بيروت وفي شوارعها التراثية وأمكنتها المشهورة؛ رحلة نصادف فيها مباني تراثية ينتشر في أجزائها جوّ من الهدوء وراحة البال التي كانت تعرفها المُدن في زمن مضى. وسيكتشف الناظر إلى لوحاته منشآت عصرية غالبا ما تكون ضخمة شبّت ببشاعة ما بين البيوت المقنطرة وتلك التي عرفت الزمن الذهبي. كما سيعثر زائر المعرض على حبال ممدودة حيث الغسيل المنشور على الشرفات وعلى الستائر المُعلّقة التي تلوّحها النسائم.

ويُضيف النص “كما نجد في المعرض لوحات تتحدّث عن أثر الحرب اللبنانية الذي تركته في المباني المتصدّعة، وحضر أيضا انفجار مرفأ بيروت في الدمار الظاهر في دواخل المباني وخارجها.. إيلي رزق الله يرسم مدينة على الرغم من جراحها هي مدينة تحب الحياة”.

والمعرض هو من دون شكّ واحد من المعارض الفردية والجماعية الكثيرة التي تتالت وتكاثرت في داخل لبنان وخارجه، لاسيما بعد مأساة انفجار مرفأ بيروت. ومن تلك المعارض ما هو مميّز ومنها العادي والأقل منه بكثير.

أما ما قدّمه الفنان إيلي رزق الله سابقا والآن في معرضه الجديد فهو من أهم ما رُسم حتى اللحظة عن بيروت؛ فهو من ناحية يكاد يكون توثيقا بصريا لمدينة زئبقية لا ترسو على حال، ومن ناحية ثانية يقدّم مدينة بدا فيها الدمار جزءا من شخصيتها وليس عارضا طارئا كما في لوحات فنانين آخرين.

مدينة تعيش على إيقاع التناقض برع الفنان في غمر مشاهدها المتعدّدة في كل لوحة من اللوحات بجوّ لوني انتشر في كل أرجائها. حضر اللون الوردي/ القرمزي/ الحسي الذي يدفع المُشاهد إلى أن يحاول تخيّل أي عطر سكريّ مُكثّف يرشح منها، وحضر اللون الأزرق/ الرصاصي/ المحمّل بدخان السيارات التي ركنت في المآرب عند اقتراب الليل ليقع الملل وتحضر البرودة ورطوبة الحزن من الجوّ العام.

كما دخل ما نوّد أن نسميه “الرشح” الأخضر بدلا من اللون الأخضر الذي لا يحيل المُشاهد إلى الطبيعة، بل إلى العوالم الافتراضية التي هندستها البرامج الإلكترونية والتي يحار المرء الناظر إليها إن كانت حقيقية أو خيالية أو مُحتضرة أو غير آبهة بأي شكل من أشكال النهايات. في هذه اللوحات جسّد الفنان المباني المعاصرة والشاهقة.

أما في لوحات أخرى أقل غرائبية في تعبيريتها فحضرت مشتقات اللون الرمادي وصولا إلى تدرجات اللون البنيّ وتلخّصت قوتها الفنية في أن الأبنية رسمها الفنان “متحلّلة” الأطراف.

وعوضا أن تأخذنا هذه الأبنية إلى المنحوتات التي تجسّد رأس شخص ما، وحيث يقوم الفنان/ النحات بتمييع نهاياته بطريقة فنية كي لا يبدو مقطوعا، يأخذنا غياب أطراف الأبنية في لوحات إيلي رزق الله إلى أجواء معلّقة “نبتت” فيها المباني أو هياكلها غير المنجزة من أرض العدم وتوارت في سديم غيبي ومُقلق.

مدينة الفنان هي في سباق مع ذاتها وتحوّلاتها الدرامية في أحيان كثيرة والمأساوية دائما، ولأجل ذلك تصلح لأن ترافق ما قاله يوما المفكر بول فيريلليو “السرعة اليوم تُظهّر الواقع في حين كان الضوء سابقا يعطي للأشياء أشكالها”.

لم يتخل الفنان عن أسلوبه، بل طوّره، فبيروت كما رسمها اليوم ليست مغايرة لتلك التي رسمها سابقا، بل هي منبثقة عنها وعن بعض ملامحها التجريدية وأحوال تشظيها إلى عوالم متوازية ومتكرّرة غاصت عمقا في آفاق اللوحات عبر انشطارات عمودية وأفقية تذكّر بفعل الشفرات.

وإيلي رزق الله من مواليد دير القمر أين ترعرع وتلقى تعليمه المدرسي، درس الهندسة الداخلية والديكور وعمل في المجالين، حيث كانت بيروت حاضرة دائما في وجدانه وفي أعماله. وما لبث أن اتجه إلى الغناء الكلاسيكي مؤدّيا أغنيات لكبار الفنانين، ثم تحوّل إلى الرسم متأخرا نسبيا، وبلور سريعا نصا فنيا خاصا به مُستخدما الرصاص والألوان المائية والأكريليك وراسما على الورق والقماش.

شارك في معارض جماعية مختلفة داخل وخارج لبنان، كما له معارض فردية آخرها ما قدّمه السنة الماضية في صالة “روشان” البيروتية تحت عنوان “من الغسق إلى الفجر”.