الحرب الافتراضية الشعواء بين «التيار الوطني الحر»، أي حزب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وبين حركة «أمل» بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري، لم تكن إفتراضية وفق أي معيار.فالجيوش الإلكترونية للحزبين، شنّت هجمات قاسية وضارية وحادة في اليومين الأخيرين، وإستخدَمت الأسلحة من العيار الثقيل.
كل التعابير الحربية كانت موجودة على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، وكل الأوصاف والنعوت وتَبادُل الإتهامات، ملأت الفضاء اللبناني، وسط تباهي كلا الطرفين بالشراسة والخشونة وبكل «الحضيض» في اللغة وقواميسها وكأنها حرب بـ«السلاح الأسود».
رئيسٌ للجمهورية ورئيس لمجلس النواب، أي أعلى سلطتين تنفيذية وتشريعية في لبنان، يتبادلان الإتهامات، ويحوّلان جمهورهما أداةَ حربٍ متواصلة. ولم يكن مفاجئاً وفق ذلك أن يفاخر الطرفان عبر تلفزيونهما (O.T.V و N.B.N)، بأن الترند الأول في لبنان هو لشعار «جنرال جهنم»، أو «مش نبيه» أي الرئيس بري، وأن تتحول الصفحات الإلكترونية منصات لنبش قبور الماضي ومكائد الحاضر.
فيشنّ مناصرو بري حملة حادة ضد عون ورئيس «التيار الحر» جبران باسيل بأنهما حوّلا لبنان إلى جهنم وسبق أن غطيا حاكم مصرف لبنان وأن محسوبين على «التيار» استفادوا من هندساته المالية. ويتّهم مناصرو عون وباسيل بري في المقابل بالفساد ومدّ اليد على أموال اللبنانيين، معاودين التذكير بدوره في الحرب كرئيس ميليشيا، وبأنه يغطي الذين يسعى المحقق العدلي في إنفجار مرفأ بيروت لملاحقتهم.
وإذا كانت هذه الإتهامات المتبادَلة معروفة ومتداوَلة منذ إحتجاجات 17 أكتوبر 2019 وقبلها، إلا أن مستوى ما بلغتْه هذه الحملات كان في الأيام الأخيرة حاداً وهستيرياً، تمت فيه إستباحة كل الأخلاقيات السياسية والأعراف، ولا سيما بين أعلى سلطتين في بيروت.
القصة بين عون وبري قديمة، وهي ليست مجرد قلوب مليانة وفق المثل اللبناني، بل هي قصة رجلين لكل منهما مفهوم مختلف للحياة السياسية، ولإدارة اللعبة الداخلية.
رمزان، خاضا من موقعين متناقضين حروباً عسكرية إختلفت معاييرها وهوياتها باختلاف الأزمنة… بري رئيس حركة المحرومين «أمل» صَعَدَ نجمه بعد إختفاء الإمام موسى الصدر، وتصدَّر حروباً كثيرة في بيروت، مع الحزب التقدمي الاشتراكي في «حرب العلمين»، ومع الفلسطينيين في حرب المخيمات، ومع الجيش اللبناني عام 1984 إبان ما عُرف بـ«إنتفاضة 6 فبراير». يومها كان عون ما زال قائداً للواء الثامن في عهد قائد الجيش إبراهيم طنوس الذي أطاحت به أحداث فبراير 1984، التي قادتها «أمل» في وجه الرئيس أمين الجميل.
وبعد نحو ستة اشهر، عُيِّن عون قائداً للجيش، وبدأ مساره يتقاطع مع بري منذ ذلك الوقت. فعون خاض بدوره حروباً متتالية، حين كان قائداً للجيش: معركة سوق الغرب في ظل وجود الجميل في قصر بعبدا، ومن ثم حرب «الإلغاء» التي كان يريد لها طيّ صفحة الميليشيات ومنها «أمل»، لكنه إكتفى بحربه ضد «القوات اللبنانية» برئاسة سمير جعجع، ثم حرب «التحرير» ضد سورية، التي إنتهت بلجوئه إلى فرنسا، وكان بري أحد أركان الحلف مع سورية الذي أخرج عون وإنتخب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية بعد إغتيال الرئيس رينيه معوض.
إفترق الرجلان ولم يكونا يوماً صديقين. واحدٌ يصعد صعوداً صاروخياً في ظل إتفاق الطائف والترويكا التي رعاها نظام الرئيس حافظ الأسد، وآخَر يعيش منفياً في فرنسا، ممنوع عليه العودة إلى لبنان. فبدأ يمارس السياسة عبر خطب ورسائل بعد إنقضاء مرحلة الصمت التي فُرضت عليه. فكان مُطَّلعاً على كل شاردة وواردة مما يجري، ويضع ملاحظاته ويراكم أسماء يعتبرها من خصومه… وكان بري واحداً من هؤلاء.
وحين أينعت ظروف عودة عون إلى بيروت، عبر وساطات سورية ولبنانية وخروج الجيش السوري بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم ينزل الخبر على بري برداً وسلاماً.
عودة عون وخروج جعجع من السجن، تطوراتٌ بدت وكأنها تعيد التوازن المسيحي – الإسلامي، بعد نحو عقد ونصف عقد من الخلل نتيجة الوجود السوري.
عاد عون إلى الساحة من الباب السوري، إذا صح التعبير، وفي يده غصن زيتون لدمشق معتبراً ان خروج الجيش السوري أنهى الخصومة مع دمشق.
زار سورية وحَجَّ إلى منطقة براد التي يقال إن القديس مارون شفيع الموارنة أتى منها. هذه العودة، والتي توجت لاحقاً باتفاق «مار مخايل» مع «حزب الله»، أتت لتضع عون أقرب إلى الحلف مع النظام السوري الذي بدأ بري يفقد تدريجاً علاقاته معه.
فرئيس البرلمان لم يزر دمشق منذ خروج الجيش السوري، ولطالما وصلتْه رسائل إمتعاض من قيادتها، لكنه ثابر على إيفاد رسائل وموفدين.
وجاءت الحرب السورية، وإصرار عون على أن نظام الرئيس بشار الأسد لن يسقط، ودفاعه عن وجود «حزب الله» في سورية، ليضعه في محور لا يستطيع بري الغمز من قناته إقليمياً أو إستراتيجياً أو «مشرقياً».
وعون الذي يستند إلى دعم خلفي، عاد إلى إستئناف معاركه السياسية من دون هوادة، فوضع أمامه مجموعة خصوم، وأراد كسر التفرد الذي كانت القيادات السياسية تتمتع به. من هنا جاءت خصومته مع بري منذ أول لحظة ولم تهدأ طوال 16 عاماً.
فمنذ عام 2005، وزعيم «أمل» لا يكلّ من مواجهة عون والأخير يبادله الخصومة. وبدأ النفور بينهما عندما زار عون الجنوب وأراد قبل إنتخابات عام 2009 توجيه رسالة لبري بأنه يريد إستعادة مقاعد المسيحيين منه. كانت مقاعد دائرة جزين الثلاثة المسيحية، تحت إشراف بري، فأراد عون إنتزاعها ونجح. لكنه أظهر إلى العلن مواجهته مع بري ولم يتراجع لا تحت ضغط «حزب الله» ولا تحت وساطات جرت معه. ولم يكن صهره الوزير جبران باسيل أقل حدة.
لم تمر مناسبة منذ ذلك الحين إلا وأظهر الطرفان نفورهما وخصومتهما.
يقف بري مع كل خصوم عون، ويقف عون ضد كل ما يعلنه بري، في قانون الإنتخاب، في شكل القانون، في تشكيل الحكومات، في سياسة لبنان الداخلية والخارجية.
ويقف بري ضد عون في كل ما يطالب به، من وزارات، من مقاعد نيابية، من كل التفرد الذي أراد عون من خلاله تزعُّم المسيحيين.
كل ذلك و«حزب الله» حليفهما يقف بين الطرفين، تارةً يُصالِح، وتارةً يتفرج، إلى حين يرى الخطر كبيراً فيتدخل بينهما.
صارت التسوية الرئاسية بغير رضى بري، فكانت بالنسبة إليه إيذاناً بمعركة جديدة كان يتحسّب لها مع صعود باسيل إلى قصر بعبدا وإدارته المباشرة لملفات حساسة.
وحين وصف باسيل بري بـ «البلطجي» لم تمرّ الحادثة بهدوء رغم إعتذار رئيس «التيار الحر». فالإعتذارات المتبادَلة بين الطرفين لا تخفي ما هو مضمر.
خمس سنوات من التناحر أوصلت عون وبري إلى هذه الحال.
وفي السنة الأخيرة من العهد، باتا لا يتورعان عن التعبير عن معارضتهما لبعضهما البعض.
رئيس البرلمان يعد الأيام لإنتهاء ولاية رئيس الجمهورية، فلا يوفر مناسبة إلا ويستهدفه فيها، وعون يتصرف على انه ينهي حياة بري السياسية، ويمهد لمستقبل باسيل الرئاسي من دون بري. أو هكذا يعتقد.
والنتيجة أن الطرفين يتحاربان بجمهورين، أقصى طموحهما أن يستخدما أفضل التعابير لشتْم الطرف الآخر، كي ينالا رضى قيادتيْهما.