كتب عماد مرمل في “الجمهورية”:
يمكن أن يخضع «خطاب المصارحة» لرئيس الجمهورية ميشال عون الى اكثر من تفسير، تبعاً لموقع المفسّر وحساباته. هو كناية عن خلطة مركّبة امتزجت فيها مجموعة «بهارات» سياسية، لوازم التصعيد المدروس و»المدوزن».
بمعزل عن التأويلات المتعددة، من الواضح أنّ عون قرّر ان يهزّ الطاولة بقوة لكنه لم يقلبها بعد كما كان يتوقع البعض، خصوصاً انّه قد يحتاج اليها لضرورات الحوار الوطني الذي دعا اليه، إن انعقد.
بدا عون كأنّه اختار ان يصوّب على الأقدام وليس الرؤوس. لم يُسمّ المدرجين في «بنك أهدافه» بأسمائهم الكاملة، الّا انّه نطق بأحرفها الأولى، تاركاً لمستمعيه استكمال باقي الهوية.
تفادى ان يخاطب الرئيس نبيه بري بالشخصي انما استحضر كل «اسمائه الحركية» وصبّ جام غضبه على مجلس النواب، متهماً إيّاه بتعطيل القوانين الإصلاحية.
لم يأتِ على تسمية «حزب الله» بالمباشر ولم يعلن عن تعليق تفاهم «مار مخايل» معه، الّا انّه اوصل رسائل الاحتجاج الواضحة اليه عبر تأكيد رفضه زجّ لبنان في نزاعات مع دول الخليج، ومعارضته «التدخّل في شؤون لا تعنينا». كذلك، نفض الغبار عن الاستراتيجية الدفاعية، واضعاً إيّاها ضمن أولويات طاولة الحوار الوطني المفترض، في نوع من «الزكزكة» للحزب، وإن يكن قد تفادى نسف معادلة الجيش والشعب والمقاومة. وأبدى انزعاجه الكبير من مواصلة تعطيل مجلس الوزراء والقضاء، استكمالاً لجردة الحساب مع الثنائي الشيعي.
وبناءً عليه، فإنّ المتحمسين لفك الارتباط مع الحزب في الوسط المسيحي شعروا بأنّ عون اقترب قليلاً منهم لكنهم كانوا ينتظرون منه سقفاً أعلى وموقفاً أشدّ، فخاب أملهم الى حدّ كبير. والمتمسكون بالتفاهم ارتاحوا الى كونه لم يكسر الجرّة بينه وبين الحزب كما كان يريده خصومه، الذين كانوا يستعدون للشماتة او غلاة التيار الذين ينادون بالعودة الى الجذور.
بهذا المعنى، لم يرو عون غليل هؤلاء ولا أولئك، غير انّه وفي الوقت نفسه لم يُطمئن الحزب إلى المستقبل ولم يعطه ضمانات في ما خصّ الآتي من التحدّيات.
لقد ارتأى رئيس الجمهورية ان يرفع البطاقة الصفراء في وجه الحزب، ملوّحاً بالحمراء، إذا لم يتوقف عن ارتكاب ما يعتبرها فاولات في منطقة الجزاء الرئاسية. لقد أوحى بأنّه استبدل إلغاء «التفاهم» بمراجعة جوهرية لمضامينه وبإعادة الاعتبار لأولويات «التيار الوطني الحر» فيه، من بناء الدولة الى المسألة السيادية.
وأبعد من الحزب، هاجم عون «المنظومة» بعنف ونأى بنفسه عنها، غير انّه لم يقفل أمامها خطوط الرجعة و»أبواب التوبة»، داعياً الى حوار وطني عاجل، علماً انّ هناك من يستبعد احتمال انعقاده، لأنّ خصوم العهد الكثر لن يمنحوه في أشهره الأخيرة خدمة مجانية، ولن يعيدوا تعويمه وتلميعه مع بدء أفول الولاية الرئاسية.
ولئن كان عون قد تعمّد خلال خطابه ان يترك الكرة في الملعب، لكنه مرّرها الى رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل الذي سيتلقفها في اطلالته القريبة، ليستكمل ما بدأه عون على قاعدة انّ هامشه أوسع في التحرّك كونّه رئيساً للتيار وليس للجمهورية، وبالتالي فالأرجح انّ باسيل سيسدّد ضربات حرة في اتجاه مرمى الحزب، انما من دون أن يقطع معه كلياً.
وإذا كان البعض يتهم عون وباسيل بأنّهما يتعمدان توزيع الادوار بينهما، فإنّ هناك من ينسب الى باسيل استغرابه كيف انّ هذا البعض يفترض اصلاً وجود حاجة الى توزيع ادوار، «ذلك انني والرئيس عون في موقف واحد ولسنا طرفين».
باختصار، ألقى عون أكثر من حجر في المياه الراكدة سعياً الى إنتاج دينامية تكسر المراوحة، قبل أن تصبح المياه المتجمعة في بركة الانتظار «آسنة» سياسياً، مع ما يمكن أن يرتبه ذلك من تداعيات إضافية على العهد المستنزف.
انّه أقرب إلى خطاب تبرئة الذمة الذي من شأنه ان يمهّد لما سيليه، بعدما أوحى عون بأنّه يضع الآخرين أمام خيارين، فإما ملاقاته وفق الأجندة التي اقترحها، وإما لن تكون الاشهر الأخيرة من ولايته شبيهة بالسنوات الخمس، والأرجح انّه كلما اقترب تاريخ الوصول إلى خط النهاية في 31 تشرين الأول المقبل، سيغدو عون اكثر شراسة في المواجهة مع الخصوم والحلفاء على حدّ سواء.