تصدرت «اللامركزية الموسعة» عناوين المشهد اللبناني والأجندة السياسية للمرحلة المقبلة فجأة ومن دون مقدمات، لمجرد أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تطرق إليها بإسهاب في «خطاب نهاية العام»، محددا «اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة» كركيزة أساسية للحل السياسي والنظام الجديد، ومن ضمن دستور الطائف ووثيقة الوفاق الوطني، مع أن هناك من يقول إن «اتفاق الطائف» لم يأت على ذكر اللامركزية المالية الموسعة وإنما نص على «اللامركزية الإدارية» لعدم إضفاء أي طابع سياسي عليها.
في الواقع، لم يأت طرح عون من فراغ. فمن جهة هو رد فعل على حالة الانهيار الحاصل في نظام الحكم، ومن جهة ثانية هو تعبير وانعكاس لما يدور في الدوائر والأروقة المسيحية من نقاشات سياسية معمقة وبعيدا عن الأضواء منذ سنة وأكثر، وبعدما بلغت الأزمة حدا خطيرا ولامست عتبة «أزمة وجودية». عكست هذه النقاشات التحول الحاصل في اتجاهات الرأي العام المسيحي «النافر» من الطبقة السياسية والنظام الذي يرعاها و«الباحث» عن حل جذري ونهائي لأزمة النظام السياسي في لبنان، من شأنه أن يرسي استقرارا لكل المكونات اللبنانية، خصوصا المكون المسيحي القلق على وجوده ومستقبله. وبالإجمال، توزعت الآراء والخيارات على الساحة المسيحية في ثلاثة اتجاهات:
– الأول: مازال مؤيدا لاتفاق الطائف ولا يرى بديلا أفضل منه، في ظل موازين القوى والمتغيرات الحاصلة على كل المستويات. ويطرح أصحاب هذا الرأي، وتحت سقف الطائف، مسألة تصحيح ما اعتراه من شوائب في معرض التطبيق والممارسة، ومسألة تنفيذ ما لم ينفذ منه على صعيد اللامركزية الإدارية ومجلس الشيوخ وسلاح الميليشيات.. أما الذهاب الى «طائف جديد»، فإنه سيكون أمرا محفوفا بالمخاطر ولا يصب في مصلحة المسيحيين في نهاية المطاف.
– الثاني: يؤيد طروحات وأفكار البطريرك بشارة الراعي ويتعاطف معها، انطلاقا من أن الأزمة المتشعبة بخطوطها الداخلية والإقليمية صارت أكبر من لبنان وطاقته على التحمل وقدرته على إيجاد حل، وأن الأمر بات يتطلب تدخلا دوليا عبر مؤتمر دولي لإعلان حياد لبنان وتكريس سيادة الدولة وسلطتها على أراضيها، وتحييده عن الصراعات والمحاور الإقليمية.
– الثالث: يعتبر أن الأزمة في عمقها ورغم ارتباطاتها الإقليمية هي في النظام السياسي الذي لم يولد على مدى عقود إلا الأزمات والحروب، والذي لم ينجح اتفاق الطائف في أن يكون حلا مستداما لأزمة النظام، وفي أن يجلب الاستقرار الداخلي لا أثناء وجود السوريين في لبنان ولا بعد مغادرتهم. ولذلك، فإن الحل هو في إيجاد نظام يتناسب مع تعددية المجتمع اللبناني وتركيبته الدينية الطائفية والثقافية، ولا تؤمنه إلا «الفيدرالية» التي هي أفضل علاج مع مجتمع تسوده التناقضات والانقسامات، والحل الواقعي لوحدته واستقراره، خصوصا أن دول المنطقة، من ليبيا إلى العراق وسورية، تفصل الحلول فيها على قياس فيدرالي.
«اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة» هو الاتجاه الرابع المطروح كخيار حل وسط بعيدا عن التدخل الدولي وقريبا من «الفيدرالية» التي يلامسها من دون تبنيها، ذلك لأن الطرح الفيدرالي الذي كثر مؤيدوه ومريدوه على الساحة المسيحية، يشكل حساسية مفرطة على الساحة الإسلامية أو بعضها، وينظر إليه من خلفية أنه مرادف للتقسيم ولا يتناسب مع تركيبة المجتمع اللبناني «الجيو – طائفية وسياسية» المتداخلة في المناطق والدقيقة في التوازنات. ومع وجود مناطق مختلطة وأقليات فيها، وفي ظل تفاوت اقتصادي واجتماعي وطبقي بين المناطق، ومع دولة لا يمكن أن تكون «مدنية بالكامل»، ومع سلطة مركزية هي الحلقة الأضعف وسط جماعات وطوائف، وواقعة تحت وطأة مصالح ومحاور خارجية متصارعة، سيكون من الصعب إقامة نظام فيدرالي. «اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة» تطرح كبديل ممكن عن «فيدرالية صعبة»، لأنها تستمد شرعيتها وواقعيتها من اتفاق الطائف الذي يتضمن نصا صريحا يدعو الى «اللامركزية الإدارية الموسعة» ولم يوضع موضع التنفيذ.
و«اللامركزية الموسعة في مفهوم مبسط، تعني توزيع الصلاحيات الإدارية بين السلطة المركزية في العاصمة والسلطات المحلية في المناطق، وهذا من شأنه أن يسهل أمور المواطنين ومعاملاتهم، ويعزز المشاركة الشعبية في الإدارة والقرار، كما يعزز المحاسبة والمساءلة على نطاق مناطقي ومباشرة. كما يسهل اعتماد خطط تعزز عمل الوحدات الإدارية الصغرى تمثيلا وانتخابا وصلاحيات، توضع في خدمة الإنماء اقتصاديا واجتماعيا، وتواكب عملية الإصلاح المنشودة في لبنان أفضل وجديد. كما تشكل «اللامركزية الموسعة» الفرصة الجدية لإعادة بناء الوحدة الوطنية وتأمين الاستقرار عبر تخفيف حدة الصراع على السلطة المركزية.