كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
توقفت مراجع سياسية وديبلوماسية امام مضمون الردّ الاستثنائي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، على الرسالة الاستثنائية التي وجّهها رئيس الجمهورية ميشال عون الى اللبنانيين، فانقسمت الآراء حول شكل الردّ وتوقيته ومضمونه، ما دفع بفئة الى توجيه التهمة لميقاتي بلعب دور «خط الدفاع الاول» عن الثنائي الشيعي الذي قصده عون، لمجرد ان سمح له بتأجيل ردّه الى مناسبة اخرى. وعليه فهل هناك من رأي آخر؟
تعترف اكثرية المراقبين بمختلف اختصاصاتهم، بأنّ العلاقة بين اهل السلطة ليست على ما يرام، لا بل انّها في اسوأ حالاته، ولذلك يمكن التوغل في كثير من السيناريوهات والروايات التي تدعم هذه النظرية. فغياب الوسطاء المحلّلين والخارجيين، دفع الى مزيد من التشدّد الذي عكسه النزاع على الصلاحيات بين اهل الحكم والحكومة بلا سقوف. وهو امر لم يعد سراً وسط ازدياد المخاوف من ان يتجاوز ما تعيشه السلطة التنفيذية من شلل جمّد اجتماعات مجلس الوزراء وشلّ العمل الحكومي. وهو ما يهدّد باحتمال تمدّده الى السلطة التشريعية في وقت قريب، إذا لم يتمّ التفاهم على فتح الدورة الاستثنائية لمجلس النواب، في حال بقي رئيس الجمهورية متمسكاً برفض توقيع مرسومها. في وقت ارتفع منسوب القلق من الشلل الذي قد يصيب السلطة القضائية التي فقدت كثيراً من هيبتها واستقلاليتها، والتي لم يكن ينقصها سوى السقطة الكبيرة التي وقع فيها المجلس الدستوري أخيراً.
ولا يُخفى على أحد ما قد يترتب على هذه المحطات إن وصلت اليها الامور من ذيول كارثية، في ظل حال الإفلاس التي تهدّد القطاعات الخدماتية، إن لم تسارع هذه المؤسسات الى رفع سعر خدماتها، مخافة ان ينضمّ قطاع الاتصالات والانترنت الى حال الهلاك الذي تعيشه مؤسسة كهرباء لبنان من ظلمة، افتقدت فيها خدماتها الطبيعية للبنانيين والمقيمين على الاراضي اللبنانية. فأركان الحكم لم يعترفوا بعد بما آلت اليه الاوضاع المتردية، لمجرد ان يطلقوا الوعود بخطوات متقدّمة لا يمكن ان تقلع قبل تسوية أوضاع المؤسسات المنهارة إن بقوا مصرّين على المضي في النزاع حول الصلاحيات، اياً كانت الكلفة والثمن على البلاد والعباد.
انطلاقاً مما تقدّم، يرى المراقبون عند تشريح الردّ غير المعلن عنه لرئيس الحكومة على مضمون رسالة رئيس الجمهورية، انّ في شكله ما قد يغني عن المضمون، بسبب مسارعة ميقاتي للدعوة الى مؤتمر صحافي مفاجئ، قيل انّه يستعد له منذ فترة، رغم مجموع البيانات التي اصدرها في حركته الاخيرة من خروجه الغاضب بعد لقائه الاخير مع رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة عشية اجتماع المجلس الدستوري، الى كلمته المدوية في المجلس الاعلى للدفاع التي سجّل فيها ابتعاده أميالاً عدة في المقاييس السياسية والدستورية عن توجّهات رئيس الجمهورية ومطالبه. وعليه، لم يكن هناك من داعٍ لتأكيدها مرة أخرى في إطلالته الاخيرة، لو لم يكن القصد منها تأكيد التمايز القاتل بين ميقاتي وعون، الذي يشكو من سوء العلاقة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.
هذا في الشكل، اما في المضمون، فقد اجرى ميقاتي جردة أعادت النظر في أولويات عون، الى درجة أراد فيها ان يبلغ رئيس الجمهورية انّه ليس بإمكانه الرهان على الحكومة لترجمة برامجه ومشاريعه. فكثير من الخطط والمشاريع التي يعد الناس بها، إن أُضيفت إلى لائحة سابقة، لم يتحقق شيء منها، وإن كان بعضها ما زال ينتظر أضواء خضراء من أكثر من جهة ومؤسسة وسلطة مالية كانت أم تشريعية أم تنفيذية ودستورية، على قاعدة سمحت له باتهام مختلف الأطراف بالتعكير على العهد ووضع العصي في الدواليب لمنعه من تحقيق أي انجاز؟
وعلى هذه الخلفيات، برز ردّ ميقاتي المبطن على مضمون كلمة رئيس الجمهورية، عندما لم يوافقه سوى في الدعوة الى العمل من اجل اعادة وصل ما انقطع بين لبنان ومحيطه العربي ودول مجلس التعاون الخليجي وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية أو الإساءة اليها بأي شكل من الاشكال، وعدم الانخراط في ما لا شأن لنا به، ولا سيما في اليمن خصوصاً. ولكنه ورغم التوافق مع عون، فقد ذهب أبعد منه في الدعوة الى إحياء سياسة «النأي بالنفس» رداً على إعادة التذكير بثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة».
وإن أراد البعض إلقاء الضوء على ملاحظات اخرى، فقد جاء تشديد ميقاتي على حماية اتفاق الطائف رداً مباشراً على دعوة عون الى إجراء تغييرات في النظام الذي لم يعد يرضي أحداً. وهو ما جاء ليوقظ شياطين الشكوك من طرح كهذا، ان تمّ ربطه بدعوة رئيس «التيار الوطني الحر» سابقاً الى المداورة بين الرؤساء، ما يشكّل نوعاً من عدم الاستقرار في السلطة والمؤسسات التي بُنيت على قواعد التوزيع الطائفي والمذهبي بنحو دقيق جداً ولا يحتمل الرجرجة في كل فترة من الزمن.
وبمعزل عن هذه الفوارق في النظرة الى طريقة مواجهة الامور، يلتقي ميقاتي وعون على عدم المسّ بالسلطة القضائية، وترك امورها لهيئاتها الداخلية التي تتولّى محاكمة أعضائها ومحاسبتهم. ولذلك، فإنّ حرصهما على مبدأ الفصل بين السلطات لا يحول دون الخلاف حول طريقة مقاربة الدعوة الى استئناف جلسات مجلس الوزراء في انتظار حلحلة «العقدة البحرية» التي فرضها الثنائي الشيعي، إلى درجة تكاد تفجّر العلاقة بين قصر بعبدا والسرايا الحكومية. وإن بلغ الامر المعالجات المعتمدة للوضع الاقتصادي والنقدي، يفترق الرجلان أيضاً حول مصير حاكم مصرف لبنان، وشكل الوفد المفاوض مع صندوق النقد الدولي والآليات المعتمدة، الى درجة تهدّد بالتأخير المتعمّد في انطلاق التدقيق الجنائي، بعد انتهاء مهلة تعليق العمل ببعض مواد قانوني النقد والتسليف والسرية المصرفية أمس.
وبناءً على ما تقدّم، وعلى الرغم من التقليل من أهمية الخلافات التي تعصف بالمقرّات الرئاسية، فإنّ هناك من يعتقد انّ عمليات الشدّ والجذب بين المواقع ما زالت قائمة على حدّتها، الى درجة اتُهم فيها ميقاتي بأنّه شكّل بخطوته الاخيرة خط الدفاع الاول عن الثنائي الشيعي، فأعطاه مهلة للردّ على مواقف عون في اول محطة مقبلة يتواجهان فيها. وعلى الرغم من نفي هذه التهمة، فإنّ اوساط السرايا الحكومية تتحدث عن سعي خفي لإعادة ترتيب العلاقات بين المؤسسات، في مرحلة هي الأخطر. فالاستحقاقات المقبلة تفرض ان يكون اهل الحكم على قلب واحد يحضّرون لها بيد واحدة. وانّ النزاع القائم قد يُستغل لمزيد من الشروخ التي تهدّد هذه الاستحقاقات وما تبقّى من مؤسسات تعمل بالحدّ الأدنى المطلوب. وإلاّ فإنّ البلاد تتجّه بسرعة الى حال من الشلل التام قد يؤدي الى ارتفاع منسوب التدخّلات الاجنبية التي تتعدّى الدعم الإنساني والإغاثي، الى درجة قد تصل الى مرحلة اكثر تقدّماً في اتجاهات اخرى سياسية وربما أمنية.