IMLebanon

“إبادة جماعية”… “سلاح” مرضى السرطان مفقود في لبنان

كتبت أسرار شبارو في “الحرة”:

“سلاحي الوحيد لمحاربة أشرس الأمراض غير متوفر في لبنان، أعيش كابوساً لا يمكن وصفه، إذ أخشى أن تفرض عليّ معركة ثالثة بعدما انتصرت في معركتين على السرطان”، بهذه الكلمات عكست إليز حجار، في حديث لموقع “الحرة” معاناة مرضى السرطان في لبنان خلال رحلة بحثهم عن الدواء.

سجل لبنان بحسب تقرير نشره “المرصد العالمي للسرطان” المنبثق عن منظمة الصحة العالمية في آذار 2021، 28,764 ألف إصابة بمرض السرطان خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينهم 11600 حالة عام 2020.

وكانت “الوكالة الدولية لأبحاث السرطان” التابعة لمنظمة الصحة العالمية أشارت سنة 2018 إلى أن لبنان احتل المرتبة الأولى بين دول غربي آسيا، بعدد الإصابات قياساً بعدد السكان، وأن هناك 242 مصابا بالسرطان، بين كل 100 ألف لبناني.

لم تستثن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ عام 2019 أيا من القطاعات، بما فيها قطاع الاستشفاء والدواء، وفيما يتعلق بأزمة فقدان أدوية السرطان فقد “أطلت برأسها السنة الماضية، بعدما تخطت شركات الأدوية في الأشهر الأولى من السنة الموازنة التي وضعتها الدولة اللبنانية”، بحسب ما قاله رئيس جمعية “بربارة نصّار” لدعم مرضى السرطان، هاني نصّار.

وشرح نصار أنه “بدأ التقنين على هذه الشركات، لكن دعم أدوية السرطان استمر مع وضع بروتوكول جديد يقوم على تحديد وزارة الصحة أنواع وأعداد الأدوية المستوردة على أن تحظى على موافقة مسبقة من مصرف لبنان”.

وعود كثيرة سمعها مرضى السرطان في الأشهر الأخيرة من المسؤولين بأن أزمة فقدان الدواء ستحل، لكن على أرض الواقع كما قال نصّار لموقع “الحرة”: “عدد كبير من هذه الأدوية غير متوفر”.

على الرغم من أن دواء السرطان بالنسبة للمرضى مسألة حياة أو موت، إلا أن ما علمه نصّار من بعض شركات الأدوية أن المصرف المركزي لم يمنحها الموافقة بعد لاستيراد الأدوية، ما يعني أنه “بعد الحصول على توقيع المصرف سيستغرق وصول بعض الأدوية إلى لبنان حوالي ثلاثة أسابيع، وخلال هذه الفترة سيبقى المرضى من دون علاج”.

لكن شركات مستوردي الأدوية موعودة وفقا لما يقوله نقيبها، كريم جبارة، بتوقيع كافة الموافقات المسبقة للاستيراد خلال الأسبوع المقبل.

وقال لموقع “الحرة”: “يوم الثلثاء الماضي توجّه وزير الصحة شخصيا إلى المصرف المركزي حيث عمل على توقيع الموافقات على أن يستكمل ذلك من مكتبه في الوزارة”.

لغاية الشهر الماضي، كان بإمكان الشركات وفقا لجبارة “استيراد أدوية سرطانية إلى الأسواق، لا أقول إن الوضع عاد إلى ما كان عليه قبل الأزمة، لكنه لم يكن متأزما جدا، استطعنا تأمين حاجة السوق بنسبة 80 في المئة، وقد سلمنا المستشفيات الأدوية قبل الأعياد لإعطاء الجرعات للمرضى خلال شهر واحد، والآن نحتاج إلى إعادة الاستيراد”.

الوضع في “الحضيض”

يصرّ رئيس لجنة الصحة النيابية، الدكتور عاصم عراجي، على أن “الأدوية السرطانية لا تصل بالكمية الكافية إلى مركز الكارنتينا التابع لوزارة الصحة، على الرغم من الوعود المتعددة التي تلقيناها من شركات الأدوية، وحجتها في ذلك أن مصرف لبنان لا يمنحها الموافقات السريعة للاستيراد”، مشيرا إلى أن “جزءا من أدوية السرطان مفقود إلا من المستشفيات الكبرى، ربما لأنها تدفع فورا لهذه الشركات ولا تتأخر كوزارة الصحة”.

وأشار عراجي في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “وضع القطاع الصحي في الحضيض، على الرغم من كل المحاولات التي تقوم بها لجنة الصحة النيابية بالتعاون مع وزير الصحة، فانهيار الليرة اللبنانية هو السبب لانهيار القطاع الصحي، في حين كل طرف يرمي المسؤولية على الطرف الآخر، والمريض هو من يدفع الثمن بعدم حصوله على الدواء أو اضطراره لشرائه من السوق السوداء، والوضع الاستشفائي ليس أفضل حالا، سبق أن قلت إن دخول المستشفى سيقتصر على الأغنياء فقط وقد وصلنا إلى هذه المرحلة”.

أنواع عدة من أدوية السرطان غير متوفرة الآن، بحسب ما أكده رئيس قسم أمراض الدم والسرطان في الجامعة الأميركية في بيروت ورئيس “الجمعية اللبنانية لمكافحة سرطان الثدي”، البروفيسور ناجي الصغير، الذي قال: “أتلقى العديد من الاتصالات من مرضى أتابع وضعهم حول عدم عثورهم على الدواء الذي وصفته لهم، ما يضطرني إلى وصف بديل عنه قد يكون أقل فعالية”.

لكن هناك مرضى تتطلب حالتهم كما قال الصغير “تناوُل نوعَي أدوية وأكثر، تكمّل بعضها البعض، لذلك فإن فقدان أي منها يعني توقف فعالية الدواء الآخر”، وعن الأدوية البديلة أجاب “منها ما هو صنع لبناني، ومنها ما هو مستورد، نحن لا نعارضها إن كانت من مصدر موثوق ومراقب، في حين أن عدد من المرضى يخشون تناولها، ولكن يتوجب علينا اتباعها وطمأنة المواطنين بأنها من مصادر موثوق بها”.

وشدد الصغير على أن “بعض الأدوية زهيدة الثمن يتراوح سعرها بين 20 و30 دولار وذات فعالية تصل إلى 80 بالمئة لكنها غير متوفرة في وزارة الصحة، في حين أن الأدوية باهظة الثمن التي يصل سعرها إلى ستة آلاف دولار متوفرة، ما يطرح علامات استفهام فيما إن كان السبب خلف ذلك رغبة الشركات المستوردة بالربح الوفير”.

من جانبه شرح نصّار أنه “يوجد 445 دواء سرطان مسجل في لبنان، وهناك ما لا يقل عن 20 دواء غير متوفر منذ أشهر، من بينها ما هو أساسي في العلاجات الكيميائية وذلك على الرغم من أن بعضها ثمنه رخيص”.

على سبيل المثال بحسب نصّار “دواء أليمتا لم يدخل لبنان منذ خمسة أشهر، كما أن دواء زوميتا غير متوفر منذ ثلاثة أشهر، وتاكسول مفقود منذ شهرين، إضافة إلى أن الأدوية التي يتناولها المرضى في المنزل والتي تعتبر المنقذ الأساسي لهم من الموت غير متوفرة، منها دواء زيتيكا لعلاج سرطان البروستات والايبرنس لسرطان الثدي، أما دواء ريفليميد لسرطان نقي العظام غير متوفر في وزارة الصحة منذ خمسة أشهر ما يعني أن على المريض شراءه من الصيدليات”.

طريق معبّد بالأشواك

قبل حوالي خمس سنوات صدمت إليز بإصابتها بمرض سرطان المبيض، لتبدأ رحلة علاج طويلة معبدة بالأشواك والآلام، ومع ذلك لم تيأس، خضعت لعمليات جراحية، وتابعت أنواعا مختلفة من العلاجات، فرحت بإعلان انتصارها الأول، لكن في السنة الماضية ظهر المرض مجددا، لتعود مرغمة إلى محاربته، وفي شهر أكتوبر انتهت المعركة لصالحها.

و كما قالت إليز: “حتى في اللحظة التي كان يجب أن أكون فيها في قمة سعادتي، كنت أفكر فيما إن كنت سأعثر على دواء لينبارزا البالغ سعره 10 ملايين ليرة في لبنان و7500 دولار في الخارج، إذ يفترض أن أتناوله طوال العمر لكي لا أسمح للسرطان بالظهور مجددا أو على الأقل أؤخر ظهوره”.

انقطاع الدواء دفع إليز إلى التواصل مع معارفها وجمعيات في كندا وأستراليا والولايات المتحدة، إلى أن تمكن طبيب لبناني يعمل في أميركا من تأمين علبة لها، وبعدما نفد تعيش في ذات الدوامة مع كل مشاعر الخوف من أن تعيش ذات المعاناة، من ألم ما بعد العمليات الجراحية والعلاج الكيميائي وآثاره.

ما ساعد الوالدة لفتى وفتاة في رحلتها الاستشفائية أنها موظفة في شركة تأمين، وقالت: “الفاتورة الاستشفائية باهظة، فالبدل الذي يتوجب على المريض دفعه لجلسات العلاج الكيميائي كفرق لما يغطيه الضمان الاجتماعي وشركات التأمين يتراوح ما بين المليونين ونصف المليون ليرة والثلاثة ملايين ونصف المليون ليرة، فما تغطيه الوزارة والضمان لا يساوي شيئا”.

من جانبها، تخشى وهيبة دوغان، المصابة بسرطان الثدي والرئة، من انقطاع الدواء مثلما حصل معها سابقا قبل أن يبّدل الطبيب علاجها.

وقالت: “خضعت سنة 2019 لعملية استئصال الثدي وجزء من الرئة، لأخضع بعدها لعلاج كيميائي، وبعد أن كانت الأمور تسير على ما يرام ساءت حالتي السنة الماضية، امتلأت رئتي بالماء، تابعت العلاج لكن المشكلة كانت في كيفية تأمين الدواء الذي انقطع من لبنان، وبعد اتصالات أجراها زوجي تمكن من تأمينه من تركيا ومن ثم من مصر، لكن بسعر مرتفع وصل إلى 450 دولار، في حين سعره في لبنان 800 ألف ليرة”.

انعكاسات خطيرة

وزارة الصحة تقدم الأدوية لمرضى السرطان غير المسجلين في الضمان الاجتماعي إن توفرت لديها، من هنا يلجأ من هم مقتدرون ماديا، كما قال نصّار “إلى شرائها من الصيدليات إن توفرت كذلك، مع العلم أن أسعارها بالملايين، وبآلاف الدولار إن تم جلبها من خارج البلاد، ومن لا تسمح له ظروفه المادية بذلك نؤمن له البديل من الهند”.

أما المريض المسجل في الضمان فعليه أن “يدفع 5 في المئة من سعر الدواء و10 في المئة من الفاتورة الاستشفائية التي ارتفعت بشكل قياسي نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار”، وفقا لنصّار.

يخشى أخصائي أمراض الدم والأورام في مستشفى رفيق الحريري الحكومي، الدكتور عصام شحادة، من تكرار المعاناة التي ذاق مراراتها المرضى وعائلاتهم إضافة إلى الأطباء والطاقم التمريضي وذلك بسبب انقطاع أدوية السرطان.

وقال: “عشنا جميعا حالة توتر، حاولنا البحث عن حلول، وإن كانت متواضعة، ضمن قدراتنا المحدودة، من خلال اللجوء إلى الصيدليات أو من خلال تواصل عائلات المرضى مع معارفهم في الدول الأخرى، لا سيما تركيا والأردن ودبي للحصول على الترياق”.

لكن سعر الدواء في الخارج مرتفع الثمن، لذلك يقول شحادة لموقع “الحرة”: “كان هذا الخيار محدودا، فرجت الأزمة عندما بدأ مصرف لبنان التوقيع على الفواتير المسبقة لاستيراد الأدوية، لكن الآن هناك مخاوف من أن تعود الأزمة، حيث أن شركات الأدوية تتحدث عن تأخير في توقيع الموافقات وبالتالي احتمال انقطاع بعض الأدوية”.

انقطاع أدوية السرطان له انعكاسات خطيرة على مسيرة شفاء المرضى بحسب شحادة، الذي شرح أن “كل دواء نعطيه للمريض لمساعدته على الشفاء، نعتبر أنه لا يمكن تعويضه، وعدم استكمال العلاج في المراحل المبكرة لأنواع معينة من السرطان يعني أن فرص الشفاء تنخفض مع إعطاء فرصة للسرطان بالانتشار، وقد لامسنا في الفترة السابقة انتكاسات لحالات عدة بسبب فقدان الدواء، من هنا نتمنى أن تكون الأزمة الحالية عابرة في هذه الفترة غير المستقرة”.

كلام شحادة أكده الصغير الذي قال إن “انقطاع الدواء يعني انتفاء أمل الشفاء لعدد من المرضى لا سيما لدى المصابين بسرطان الدم، وربما الموت أسرع حيث أن تأكيد ذلك يحتاج إلى دراسات علمية، والأمر لا يقتصر فقط على أدوية السرطان فالمصابون بهذا المرض يحتاجون إلى أدوية مساندة لعلاج الالتهابات وتقوية المناعة ومضادات التجلط ومنها ما ليس متوفرا، وإن وجدت فسعرها مرتفع بعد رفع الدعم الجزئي أو الكلي عنها، كذلك تكاليف العلاج والفحوصات والاستشفاء مرتفعة جداً”.

وضع لا يحتمل

في شهر آب الماضي نفذ مرضى السرطان اعتصاما أمام مبنى “الأسكوا” بسبب عدم توفر أدويتهم، حيث رفعوا الصوت مطالبين بحقوقهم البديهية، وكما قال نصّار: “بدأ مصرف لبنان التوقيع على موافقات شراء الأدوية بعد انقطاع دام ثلاثة أشهر، سارت الأمور بشكل جيد بعدها، وإن استمر التأخير في استيراد بعض أنواع الأدوية، حيث تلقوا الوعود بأن تحل كل العقد مع بداية السنة، وهو ما لم يحصل”.

لكن فقدان بعض الأدوية من الأسواق في هذه المرحلة ظرفي، بحسب جبارة، حيث أكد أنه “يفترض أن يحل الأمر بعد حصولنا على الموافقات المسبقة”، وقال: “نحرص ووزارة الصحة إضافة إلى مصرف لبنان على عدم تكرار مرحلة انقطاع الدواء لا سيما أدوية السرطان”.

في ظل حالات المد والجزر بين توفر الدواء وفقدانه، ساهمت المساعدات التي تصل كما قال الصغير إلى “صندوق مساعدة المرضى” في مستشفى الجامعة الأميركية و”الجمعية اللبنانية لمكافحة سرطان الثدي” وجمعيات أخرى، في مساعدة عدد من المرضى وخففت من تداعيات الانهيار.

ومع ذلك اعتبر الصغير أن “الوضع متعب ولم يعد يحتمل”، داعيا “السياسيين والمسؤولين إلى التوقف عن المناكفات والالتفات إلى معاناة الناس ومرضى السرطان الذين يدفعون من حياتهم ثمن ما يمر به لبنان”، وحث على “ضرورة إيجاد حلول جذرية، ووضع بروتوكولات للعلاج تراعي إمكانيات المرضى مع عدم التضحية بفرص شفائهم”.

وإذا كان البعض يعوّل على تحرك المجتمع الدولي لإنقاذ لبنان مما هو فيه، فإن عراجي أكد أنه “لن يقدم فلسا إلى لبنان قبل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وبالتالي البدء بالإصلاحات، والجميع يعلم أنه إذا لم يحصل دعم خارجي مراقب فإن الوضع سيزداد سوءا”، مؤكدا أن “كل ما يمر به لبنان مرتبط بالوضع السياسي، وبالتالي لن يتحسن أي قطاع طالما الانقسام السياسي الحاد مستمر في البلد”.

ما يحصل بحسب نصّار “إبادة جماعية لمرضى السرطان، وإذا كان اكتشاف المرض في بدايته يساعد على إنقاذ حياة المريض فإن عدم توفر العلاج يعني السماح للخلايا السرطانية بالانتشار من دون أي مواجهة، وبالتالي خسارة معركة الحياة سريعاً”.