كتب محمد وهبة في “الاخبار”:
كان أمس يوماً شبه عادي. لم يظهر فيه «الغضب» الذي روّج له قبل أيام. الشارع لم يشهد تفاعلاً حقيقياً مع فكرة الإضراب نفسها، فبدت الخطوة تحرّكاً سياسياً ضمن أهداف لا تمتّ بصلة لمطالب السائقين. أصلاً لا يُنظر إلى تحرّكات الاتحاد العمالي العام ومتفرعاته سوى من هذه الزاوية. أما فكرة تعطيل الحياة الاقتصادية للضغط من أجل تحقيق المطالب فلا جدوى لها في ظل تعطيل متقطّع فرضته الأزمة على الحياة العامة. كما أن الضغط على نظام منهار ومُفلس سلوك عبثي، ويزداد عبثية عندما يكون المضربون من صلب النظام!
قبل أسابيع، كان رئيس اتحاد نقابات النقل البري بسام طليس يمهّد لما أُطلق عليه «يوم الغضب» بذريعة أن الحكومة أخلّت باتفاق أبرمته مع الاتحادات يقضي بدعم البنزين للسائقين العموميين، لافتاً إلى أن تعرفة النقل يجب أن تكون 35 ألف ليرة لتكون هناك جدوى من عمل السائق. كلام طليس محقّ. لكنه نقيض الواقع. فالسائقون العموميون نالهم ما نال بقية اللبنانيين من تضخّم في الأسعار وتدهور في القدرات الشرائية، وربما أكثر من غيرهم، إلا أن الدعم لن يعيد لهم هذه القدرة الشرائية، واستيفاء تعرفة بقيمة 30 ألف ليرة عن كل راكب ليس بعيداً جداً من التعرفة التي أشار إليها طليس في ذلك الوقت (حالياً قد تكون التعرفة العادلة أصبحت أعلى في ظل تقلبات سعر الصرف). الأهم من ذلك كلّه، هو أن طليس، بمعزل عن بقية السائقين، هو من نسيج السلطة الحاكمة التي ما زالت منذ سنتين تراوغ لعدم القيام بأي إصلاحات تمنع شر الفقر عن السائقين وبقية «المعتّرين». بل هي، على العكس، انغمست في سلوك مدمّر لمداخيل الأسر في لبنان ومدخراتها، وتركّز اليوم على تشليح هذه الأسر التحويلات المتواضعة التي تصلها من أبنائها في المغتربات. بمعزل عن الخطاب السياسي عن انتماء طليس وشلّته من السائقين، المسألة الأكثر أهمية هي أن ما فقده السائقون العموميون لا يتعلق بمداخيلهم المباشرة، بل بالمكتسبات التي ناضل عمّال لبنان عقوداً لتحصيلها. فالاتحادات النقابية قد تفرض رفع تعرفة راكب «السرفيس» بما يتناسب مع كلفة التشغيل، لكن هل بالإمكان رفع التعرفة إلى الحدود التي تغطّي الاستشفاء والطبابة والتعليم لهؤلاء وأولادهم؟ هل ستكون التعرفة كافية لتغطية فاتورة مولّد الكهرباء؟ وهل تكفي لاسترداد قيمة استثمار هذه الفئة في كلفة السيارة واللوحة العمومية؟
لا إجابة لدى طليس أو لدى رؤسائه في قيادة قوى السلطة. السائقون يدركون ذلك تماماً، لكنهم يتعلّقون بأمل زائف. من آمالهم الزائفة أن اللوحة العمومية تمنحهم حقّ الانتساب إلى الضمان الاجتماعي، وتوفر لهم خدمة الاستشفاء والطبابة والدواء. غير أن الأزمة فعلت فعلاً لم يدركوه بعد؛ الضمان الاجتماعي مفلس!
أي سائق عمومي أو أي منتسب للضمان اليوم سيدفع أكثر من 90% من قيمة الفاتورة الاستشفائية. إذ إن ما يقدّمه الضمان حالياً لا يغطّي أكثر من 10% من أي فاتورة استشفاء. وليس وضع الطبابة أفضل حالاً. تعرفة بعض الأطباء اليوم تبلغ 800 ألف ليرة فيما لا يعترف الضمان إلا بتعرفة 75 ألف ليرة للأخصائي يدفع منها 80% فقط، أي نحو 10 في المئة.
التغطية الصحية التي يحصل عليها السائقون هي نفسها التي يحصل عليها كل المشمولين بالضمان الاجتماعي. أما أولئك الذين يحصلون على تقديمات من صناديق ضامنة أخرى فليسوا أفضل حالاً. وكما في التغطية الصحية، يعاني السائقون العموميون أيضاً في كلفة التعليم ومولد الكهرباء وسواهما من الأكلاف الشهرية. قصّتهم هي قصّة كل مقيم في لبنان وكل من كانوا يعدّون طبقة وسطى وأصبحوا «طبقة محتاجة»، بحسب المستشار في قضايا الفقر أديب نعمة. الفقر الذي أصاب هؤلاء جميعاً بات هائلاً إلى درجة انعدام القدرة على تحديد معدلاته سواء شعروا به أم لم يشعروا بعد. كلفة الـ100 كيلواط كهرباء شهرياً من مولّد الحيّ لا تقلّ عن 800 ألف ليرة، أي ما يوازي التعرفة المحصلة من 26 راكباً.
بعد هذا كله، هل يعتقد السائقون أن دعماً من الدولة سينعش أيامهم ويعيدها إلى السابق؟
عملياً، الدولة مفلسة مثلهم. نقاباتهم لم تكن مجرّد جزء عابر في بنية النظام، بل جرّتهم ليكونوا هم أيضاً جزءاً من هذه البنية. سقوطها يعني سقوطهم. فهذه البنية لا يمكنها إعادة إحياء الضمان الاجتماعي، ولا يمكنها تقديم التغطية الصحية للمقيمين في لبنان، ولا يمكنها منح أولادهم تعليماً لائقاً لا في مدارسها الرسمية ولا في المدارس الخاصة المجانية، وقطعاً ليس في المدارس الخاصة غير المجانية.
لهذه الأسباب، ربما، كان يوم أمس عادياً. لا يشارك السائقون في تحرّكات الاتحادات والنقابات التي ينتسبون إليها قسراً لأنهم يدركون هذه الوقائع ويعيشونها يومياً، وإن كانوا لا يعلمون طريقة للتعبير عنها. لو كان التحرّك في الشارع يعبّر عما يحصل ويحاكي واقعهم، لربما تجرأوا على المشاركة. لكنهم يعلمون أن المشاركة غير مجدية لأن الانتفاض على واقعهم يتطلب انتفاضة شاملة على النظام ورموزه. فيما واقع الحال، هو أن الفقر يشدّ الناس نحو الأسفل ويربطهم أكثر بزعمائهم!
أيضاً، يصطدم هؤلاء بغياب وسائل الضغط. ما تقدّمه لهم اتحاداتهم وتجمعاتهم النقابية مجرد وسائل ضغط تقليدية يعلمون أن لا تصريف لها سوى في العمل السياسي الضيّق. وسيلة الإضراب لم تعد فعّالة وسط حياة معطّلة أصلاً. فما حصل هو أن زعماء الطوائف تركوا الأزمة للسقوط الحرّ فصارت مفاعيلها هائلة على الأسر إلى درجة أن كلفة الانتقال من مكان السكن إلى مكان العمل صارت أكبر من مردود العمل نفسه. فعلى سبيل المثال، كانت قوى الضغط الأكثر قوّة هي اتحادات المصالح المستقلّة نظراً لقدرتها على تعطيل الحياة العامة من ضمان اجتماعي ومرفأ ومؤسسة الكهرباء وسائر المرافق العامة. إضراب النقل، أو إضراب اتحادات المصالح المستقلّة، كان يشّل هذه المرافق ويشكّل عامل ضغط على بنية السلطة لانتزاع مطلب ما. لكن منذ أكثر من سنة، تشهد هذه المرافق تقطّعاً متواصلاً في تقديم الخدمات للمواطنين هو أكبر بكثير من إضراب ليوم واحد، بل يكاد يكون إضرابات متواصلة كل السنة. رغم ذلك، لم يصل العاملون في هذه المصالح إلى زيادة أجورهم مثلاً. كل ما حصلوا عليه كان مساعدة اجتماعية تافهة.
ما هي وسائل الضغط المتاحة للسائقين؟
الجواب حتماً ليس لدى طليس ولا في الإضرابات التي يدعو إليها. فالسلطة اليوم عاجزة وتعكس عجزها على كل المنضوين في بنيتها، سواء في وظائف القطاع العام أو في النقابات العمالية، أو حتى في القطاع الخاص. عجز السلطة يجعلها في صراع غير معلن مع نسيجها الاجتماعي. فهي اليوم تعجز عن زيادة الأجور، فيما يتفاوض أصحاب العمل على زيادة مقطوعة لا تغطّي أكثر من 10% من تضخّم الأسعار في الفترة الواقعة بين مطلع 2019 ونهاية 2021. في هذه الفترة تضخّمت الأسعار بأكثر من 700%، بينما الأجر الوسطي المصرّح عنه لصندوق الضمان الاجتماعي يبلغ مليوناً و880 ألف ليرة، والزيادة المطروحة اليوم تبلغ مليوناً و325 ألف ليرة فقطـ، علماً بأن تضخماً كهذا يفترض أن يرفع الأجر الوسطي ليبلغ بالحدّ الأدنى 13 مليون ليرة.
هكذا يصبح إضراب اتحادات النقل البري عبثياً بالكامل. ولو افترضنا أن هذا الجزء من السلطة انفصل عنها وقرّر الانتفاض، فإن وسائل الإضراب النقابي ليست أدوات ضغط مناسبة لتحقيق المطالب. المطالب يجب أن تختصر اليوم بما يردّده دائماً الوزير السابق شربل نحاس: التغطية الصحية الشاملة المجانية لكل المقيمين، النقل المشترك العام، التعليم المجاني.