سيعلن رئيس تيار المستقبل والرئيس الأسبق للحكومة سعد الحريري بعد ظهر الاثنين عزوفه عن المشاركة ترشّحاً في الانتخابات النيابية المقبلة هو شخصياً وتيار المستقبل كحزب سياسي، بما يحسم الجدل والتكهنات التي رافقت هذا الملف طوال الأشهر والأسابيع الماضية.
بطبيعة الحال لم تنفع اللقاءات التي أجراها البعض معه في ثنيه عن قرار مُتّخذ منذ أشهر قليلة، وخصوصا أن زيارته الحالية القصيرة إلى بيروت لم تهدف إلى تأمين أكثر من إخراج للإعلان عن القرار المُتخذ.
قرار انكفاء الحريري وتياره عن خوض الانتخابات النيابية لا يمكن مقارنته بأي شواهد سابقة من الحياة السياسية اللبنانية، ولا حتماً بقرار المقاطعة الشاملة في العام 1992 الذ اتخذه المسيحيون على أعلى مستوياتهم السياسية والدينية والتزمت به أكثرية اللبنانيين (قاطع الانتخابات يومها 87% من اللبنانيين). كما أن منطق الحياة السياسية، وتحديداً في لبنان أن لا أحد يخرج من الحياة السياسية إلا بقرار ذاتي وإما لا سمح الله بالاغتيال الجسدي. وفي موضوع الحريري فالقاصي والداني يعلم أن قراره مبني على وضعه المالي المتراجع الذي حتّم عليه أن يعقد “صفقة ما” مع قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة، بضوء أخضر سعودي أو عدم ممانعة، نال بموجبها عقود عمل لتحسين أوضاعه المادية مقابل ابتعاده عن الحياة السياسية في لبنان لفترة على الأقل. وبالتالي يجب الفصل بين قرار الحريري عدم خوض الانتخابات والابتعاد “مؤقتاً” عن الساحة السياسية وبين أي قرار آخر بالانسحاب من الحياة السياسية بشكل كامل وحلّ تيار المستقبل، رغم أن مؤسسات التيار الأزرق باتت بحكم المحلولة بفعل الأمر الواقع، من المؤسسات الإعلامية وليس انتهاء بالمؤسسات الاجتماعية.
بعيداً عن المشهدية إزاء ما يحصل، يبقى الأهم هو في مدى تمكّن الرئيس الحريري والمسؤولين في تيار المستقبل والكوادر على كل المستويات من إجراء نقد ذاتي شامل لكل المرحلة الماضية منذ 14 شباط 2005 وحتى اليوم بكل إخفاقاتها التي لا يمكن تحميل الحريري وحده مسؤوليتها بسبب كل التعقيدات الخارجية- الإقليمية والداخلية التي بدأت بالاغتيالات وانتهت بالتسويات، ولكنه من دون شك يتحمّل مسؤولية كبرى لأنه كان في موقع القرار.
ولأنه اليوم في موقع القرار بالانكفاء، ولأنه أكد لمناصريه الذين تجمهروا الأحد أمام بيت الوسط أن “هذا البيت لن يُقفل”، فإن المطلوب إعادة قراءة دقيقة للمرحلة السابقة بكل تشعباتها، والأهم على 4 مستويات:
ـ أولاً مستوى التعاطي مع “حزب الله” وكل أساليب التسويات و”ربط النزاع”، والتي نتجت عن: تنازلات داخلية نتيجة سلسلة الاغتيالات وعمليات الترهيب التي تعرّضت لها قوى 14 آذار وفي طليعتها تيار المستقبل، وعن تنازلات خارجية نتيجة الاستجابة المُفرطة أحياناً للطلبات السعودية، وأيضاً نتيجة فريق المستشارين والمتنفعين والوصوليين الذي كان يحيط بالحريري ويضغط لتنفيذ أجنداته الخاصة.
ـ ثانياً كل التسويات على قاعدة الصفقات التي تمّت، والتي أجهدت التيار الأزرق وغلّبت على قراراته مصالح بعض المنتفعين داخله ما كلّفه غالياً جداً.
ـ ثالثاً كيفية التعاطي مع السعودية والتوفيق في توازن دقيق ما بين الحفاظ على العلاقات التاريخية للرئيس الشهيد رفيق الحريري معها والاستمرار فيها على قاعدة تقديم رؤية وتصوّر كاملين لحفظ موقع لبنان ومكانته العربية والإصرار على رفض الاستجابة لكل التسويات الخارجية والإقليمية تحديداً التي من شأنها المسّ بالمصالح السيادية للبنان.
ـ رابعاً إعادة التأكيد على الالتزام بالدستور في آليات الحكم عوض القبول بتعطيل الدستور لمصالح آنية، والتشديد على أن الثبات في الموقف السياسي و”النفس الطويل” لا بدّ وأن يوصلا إلى النتيجة المرجوة عوض المسارعة دائماً إلى تقديم التنازلات للخصوم على قاعدة “أم الصبي”.
سعد الحريري يقف الآن أمام لحظة الحقيقة التي قد تصبّ في مصلحته بالابتعاد عن حلبة السياسة والحكم في لبنان في هذه المرحلة إذا أحسن استخلاص التجارب بعيداً عن المقرّبين منه من المتملقين والمحّظيين وأصحاب الأجندات… وهو وإن كان ظُلم حيناً إلا أنه ظلم نفسه أيضاً في أحيان كثيرة فدفع اللبنانيون الثمن!