كتب ناصر سليمان في “الأخبار”:
عكار التي لطالما وُصفت بـ«الخزّان البشري» للجيش نجحت الحريرية في تحويلها إلى «خزّان شعبي» لتيار المستقبل، لطالما غرف منه كلما احتاج إلى حشد بشري، أياً تكن المناسبة.
الاعتبارات المذهبية والخدماتية أحكمت سيطرة الرئيس الراحل رفيق الحريري على تمثيل عكّار. قبله، كانت متنوّعة الأهواء، يحكمها وجيه البعريني بالإرث الفلّاحي وعصام فارس بالخدمات والتبرعات، إلى جانب زعامات مناطقية وفاعليات لها وزنها، وأحزاب وقوى كان لها حضور في أغلب البلدات العكارية… إلى أن جاء المدّ الأزرق. بسهولة، ورث الرئيس سعد الحريري الولاء العكاري من والده. كان يكفي أن يعلن عن نيته لزيارة المنطقة لتعيش ما يشبه العيد، كما في زيارته بلدة الكواشرة عام 2009 لإعلان اللائحة الانتخابية. اليوم، يبدو هذا وكأنه من ماضٍ سحيق. كثر لم يعودوا مقتنعين بما تقوله لـ«الأخبار»، ابنة عكار، عضو المجلس السياسي للتيار شذى الأسعد، بأن «كل اللبنانيين يدركون أن وجود الحريري في المعادلة السياسية حاجة وليس ترفاً سياسياً».
و«الترف» لا يعرفه أساساً ناس عكّار المنهكون والمنهمكون بهمومهم اليومية. قد يكون «اعتزال» الحريري نتيجة ضغوط خارجية أجبرته على التنحّي عن «العرش». قرار، كهذا، كان في ما مضى كفيلاً بإحداث زلزال، وبزحف العكاريين إلى العاصمة رفضاً له. لكنه، قبل يومين، مرّ خجولاً بعدما فقدوا، منذ زمن، حماستهم الحريرية.
منذ عام 2005، تحت وطأة الدم المسفوك في بيروت، أسلمت عكّار قيادها لسعد الحريري، يشكّل خريطتها كما يشاء، فاختار لتمثيل أهلها الفقراء، الفلاحين بمعظمهم، النائب السابق «البيك» محمد الدندشي، والنائب «البيك» مصطفى هاشم، وسليل العائلات الإقطاعية محمود مراد. وحتى في تمثيل تيار المستقبل، عكّارياً، كانت الغلبة دائمة لنخب العائلات لا لمستقبليين متحدّرين من الطبقات الفقيرة. وإلى ذلك، حفر عميقاً في النفوس التحالف مع القوات اللبنانية، وهي في الذاكرة الجماعية العكارية، مرادف لحاجز المدفون والقتل على الهُوية.
في كل دورة انتخابية، كان سعد الحريري يسقط في امتحان الوعود. وقف مرة، في معرض رشيد كرامي في طرابلس، ليعد العكاريين بـ 52 مليون دولار. قالها بلهجة عكّارية. الملايين الموعودة بنت عدداً من المهنيات والمدارس، ولم يصل منها شيء إلى الطرقات المحفّرة، ولا حالت بين العكاريين و«طريق الجلجلة» إلى طرابلس وبيروت للتعليم والاستشفاء والتوظيف. أما الفرع الموعود للجامعة اللبنانية فأُقرّ على الورق فقط، حاله كحال أوراق المحافظة كافّة. وعود النائب هادي حبيش بإنهاء الأوتوستراد العربي ناقضها واقع مأساوي في أغلب الطرق العكارية، ناهيك عن غياب شبكات الصرف الصحي وتلوّث الأنهر. قدّم «المستقبل» تأمين رخصة سلاح أو رخصة زجاج «فيميه» أو التوظيف في المؤسسة العسكرية على الاهتمام بإنهاء الإهمال العام على مستوى المحافظة.
سبعة عشر عاماً، لم «يغرف» خلالها التيار الأزرق من «خزّانه» سوى سفير واحد، ولم يُعيَّن عكّاري واحد في وزارة إنمائية. الناخب العكاري الذي انتظر الإنصاف والمشاركة في النظام وإنهاء الإهمال والتهميش، وجد نواب المنطقة «المستقبليين»، عام 2015، يحاربون لاستقدام نفايات العاصمة إلى مطامر عكّار، وفق خطة أعدّها وزير داخلية «المستقبل» في حينه نهاد المشنوق. كانت تلك الخطيئة التي أرّخت لحملة «عكّار منّا مزبلة» كأول تحرك شعبي على الأرض، على غير هوى «المستقبل»، يقطع الطرقات ويحشد في الساحات ويرفع شعارات ضد التيار الأزرق.
تُرجم التراجع في نتائج انتخابات 2018. فاز «المستقبل» بأربعة نواب في المنطقة، بعدما كان قد حصد كامل مقاعدها السبعة في انتخابات 2009. نتائج جاءت على وقع وعود لم تتحقّق، من تخصيص 52 مليون دولار لإنماء عكار، إلى تخصيص 100 مليون لمعالجة أزمة النفايات. وبعدما سئم العكاريون تحويلهم إلى «خزّان» للتجييش الأجوف. في الحملة الانتخابية عام 2018، اقترح الأمين العام للتيار أحمد الحريري على المواطنين، لتحسين أوضاعهم، التوجه إلى الزراعات البديلة، متناسياً أن السياسات الحريرية منذ عام 1992 قضت على الزراعة التي تعتمد عليها المنطقة.
حراك عكار خلال انتفاضة 17 تشرين كان مدوّياً. الهتافات في وجه «المستقبل»، داخل عرينه، لم تقل قسوة عن تلك التي أُطلقت ضد بقية الأفرقاء السياسيين. هتف عكّاريون ملء حناجرهم يومها: «يا حريري يا مفجوع بيكفي فقر بيكفي جوع»! يومها، تفرّق كثيرون من حول التيار، معلنين رفضهم لكل أحزاب السلطة. بين هؤلاء عضو المكتب التربوي لتيار المستقبل سابقاً سامي ضاهر. وهو يقول لـ«الأخبار» إن اعتزال الحريري مهم جداً وتعليق العمل السياسي للمستقبل ضرورة وطنية للعبور إلى الدولة المدنية على أمل رؤية المشهد نفسه لدى كل أحزاب الأزمة»، إذ إن هناك «ضرورة للخروج من الكانتونات الحزبية والمذهبية بعد ثورة 17 تشرين كممر إلزامي نحو الدولة المدنية المتحررة من ملوك الطوائف»، مشيراً إلى أن «عكار، على مدى 15 سنة، لم تكن سوى رقم عددي للانتخابات وتظاهرات ساحة الشهداء». وفيما يؤكّد أحد رموز حراك عكار، غيث حمود، أن الأمر «يفتح الباب على أمل تغيير جديّ في تمثيل منطقة عكار المحرومة»، عزا أحد مؤسسي الحراك الشعبي في الجومة بشار نعمان «هذا المصير للمستقبل إلى إهماله مناطق نفوذه الشعبية التي كانت طوال 17 عاماً تعمل بالتكليف الشرعي المسمّى زي ما هيي»!
تراجع المستقبل أعطى نفساً لخصومه. رئيس تيار الوفاق العكاري هيثم حدارة لا يستغرب اعتزال الحريري وتياره «بعدما أثبت فشله الذريع على الساحة السياسية في لبنان وخصوصاً في عكار»، مشيراً إلى أن «تيار المستقبل هيمن على القرار السياسي لعكار منذ عام 2005، عبر شدّ العصب الطائفي والمذهبي والتحريض وتشويه صورة المقاومة كعدو لعكار وأهل السنة، ولم يقدّم في المقابل سوى الوعود الفارغة».
النقمة الشعبية على «المستقبل» يبرّرها مستشار الحريري في عكار خالد الزغبي بـ«الضغوطات التي واجهها الحريري على الصعيدين المادي والسياسي». لكنه يقرّ بمسؤولية نوابه عن تفاقم النقمة الشعبية، إذ «لم يكن أداؤهم على مستوى التطلعات رغم المحاولات لانتزاع بعض المشاريع، واقتصر الأمر على الخدمات الفردية وبعض المشاريع المتوسطة بسبب الأزمة السياسية التي كانت تعرقل إقرار المشاريع الإنمائية الكبرى في عكار».
لا تحجب التبريرات الإرباك لدى الزغبي ورفاقه المستقبليين. ويقول إن «الواقع العكاري، كالسني، يشهد حالاً من الإرباك مع إعلان الحريري عزوفه السياسي». إرباك يقابله ارتياح لدى الأسعد التي أعربت عن تفاؤلها بمستقبل «المستقبل»: «ما زالت عكار وفية. بل إنّ وضع المستقبل الجماهيري تحسّن عن عام 2018. في الانتخابات الأخيرة كان قسم من جمهوره يشعر بتململ وعدم رضا عن التسوية الرئاسية. أما اليوم فهذه الشريحة شعرت بالارتياح». ارتياح لم يتبدَّ أبداً على قسمات الحريري وهو يتلو بيان «الانتحار السياسي».