كتبت هيام القصيفي في “الاخبار”:
لا تقتصر مفاعيل انسحاب الرئيس سعد الحريري على البيئة السنية. غيابه سحب من البعض الخصم بقدر ما سحب منهم الحليف. لكن السياسيين في حاجة إلى خصوم. والتيار الوطني الحر منهم.
تختلف قراءة الحدث الحريري بحسب القوى السياسية، وربطها بالمذكرة الخليجية وما سينتج منها، خصوصاً إذا أخذ تزامن الحدثين مع الإطار العام للوضع اللبناني الذي أصبح معلقاً على تمايزين: الموقف الغربي، أميركياً وأوروبياً، الذي لا يزال يحاول تعطيل مفاعيل أي توتر لبناني، والموقف الخليجي الذي يذهب إلى تصعيد في المواجهة مع إيران في لبنان، من دون أن يتضح أفق هذا التصعيد ودرجاته، وتجاوب حزب الله مع التصعيد الخليجي، أو تفكيكه على مراحل، بحيث يعطل مفعوله.
وإذا كان الوضع العام يحتاج إلى أيام لبلورة آفاقه، فإن الإطار الضيق المحلي البحت لا يزال يفرز تداعيات جراء خطوة الحريري. ينسحب من أمام التيار الوطني الحر خصم من الصف الأول في الحياة السياسية. وفيما الحكم مبكر على ما سيحدثه موقف الحريري من تأثيرات في الشارع السني، وفي الانتخابات، إلا أن النتائج الأولية تظهر التيار الوطني في موقع حساس.
بنى التيار أدبياته في مرحلة 2005 وما بعدها على خصومة الرئيس سعد الحريري. وبنى أدبياته بعد التسوية الرئاسية وقبلها بقليل على تحالف معه. وبين الدراجة النارية البرتقالية في جدة عام 2015 والتسوية الرئاسية، وبين ترتيبات مجلس الوزراء وتمرير صفقات أيام المستشار نادر الحريري، بنى رئيس التيار النائب جبران باسيل والحريري علاقة جيدة لم تصل مفاعيلها إلى صقور المستقبل الذين ظلوا ينظرون بريبة إلى التسوية الرئاسية وإلى العلاقة مع باسيل.
منذ 17 تشرين الأول، تغيرت أحوال الطرفين، لكن المرشح الرئاسي لخلافة رئيس الجمهورية ميشال عون، والذي نال حصة الأسد من الاستهدافات الشعبية، عرف كيف يسحب شارعه ويعيد إطلاقه كلما دعت الحاجة إلى استنفار شعبي. وصار الحريري، وفق خطاب باسيل، هو الخصم الذي تخلى عن رئيس الجمهورية، وعن التسوية. فوقف باسيل له بالمرصاد حين أراد العودة مرة أخرى إلى الساحة السياسية عبر السرايا الحكومي. ولا يمكن التعامل وفق ذلك مع خطاب باسيل الأخير عن الحريري بمعزل عن السنتين الأخيرتين. لكن الغياب الكامل لرئيس تيار المستقبل بالطريقة التي حدث فيها والتبريرات التي أعطيت له، جعلت رئيس التيار الوطني يفقد، في المحصلة، خصماً سياسياً. مشكلة باسيل أنه يحتاج دائماً إلى خصوم من أجل إبقاء الخطاب الشعبي عالي المستوى. لا يخلو خطاب لباسيل، وقد ورث ذلك من عون، من تصويب النظر إلى شخص أو حزب أو قوة سياسية. في الآونة الأخيرة أكثر من عدد خصومه، ورفع مستوى خصومته مع الرئيس نبيه بري إلى الحد الأقصى، قبل أن يتدخل حزب الله للجم التوتر. ومنذ ما قبل حادثة الطيونة وهو يرفع أو يخفض مستوى هجومه على القوات اللبنانية، بحسب ما تقتضيه الظروف الداخلية، ورفع مستوى التأهب العوني تمهيداً للانتخابات.
مع انسحاب الحريري من المشهد، فقد باسيل خصماً سياسياً حوّله في السنتين الأخيرتين محل استهداف دائم، وساهم في تحفيز الوضع العوني الداخلي تجاهه. وتبرير الغياب بمحاولة الحريري النأي بالنفس عن إثارة استفزاز الثنائي الشيعي وتأجيج التوتر السني – الشيعي، يساهم أكثر في منع تحويله كبش محرقة عونية دائمة كما جرت العادة. وهذا ما يشكل ثغرة في شد العصب الانتخابي. فالخطاب العوني قبل الانتخابات، إذا جرت، يحتاج إلى مزيد من وقود التعبئة. فبين بري والقوات، لا يمكن للتيار إلا أن يرفع سقفه العالي لمزيد من الاستقطاب. إلا أن محاذير زيادة الضغط على بري أصبحت مكلفة، سواء تجاه حزب الله، أو تجاه الشارع الشيعي. والتيار يحتاج إلى الأصوات الشيعية في دوائر تحمل دلالات مهمة، وهو يريدها بأي ثمن، بغض النظر عن فقدانه شريحة من الأصوات السنية. ويحتاج إلى بري في استحقاقات دستورية داهمة، سواء في ما يتعلق بقانون الانتخاب أو رئاسة الجمهورية. لذا يصبح تحويل الأنظار من المستقبل إلى القوات أخف وطأة وأكثر شعبية عونية في استقطاب المعارضين. ربما تعتبر القوات أنه في غياب الحريري أصبحت هي «رأس حربة» في مشروع المواجهة مع حزب الله، لكن خصومها يعتبرون أنها مشروع مواجهة خارجي، لا سيما بعد الورقة الخليجية. وهذا يعطيهم المجال للتصويب عليها. لأن مرحلة ما بعد الحريري هي في المحصلة مرحلة مواجهة بين مشروعين، والقوات صارت في عرف خصومها في المقلب الآخر منذ استقالة الحريري من السعودية وصولاً إلى استقالته من بيروت. ورغم أن حزب الله رفع من منسوب التصويب عليها منذ حادثة عين الرمانة، قبل أن تُسحب فتائل التوتر الطائفي، إلا أن التيار يدرك جيداً مفاتيح اللعبة المحلية المسيحية. وهو لا يزال قادراً على الرهان على أن هذا الخطاب يحرك العصبيات المحلية والعائلية، فيساهم في تعزيز حضوره الانتخابي. كل ذلك من دون الأخذ في الاعتبار العوامل الإقليمية. لأن التيار يدرك أن خطابه لم يعد قابلاً لأن يصرف إقليمياً مهما بلغت التراجعات والرسائل الإيجابية. وهو ما ستكون عليه الحال بعد الرد اللبناني على الورقة الخليجية.