لأنّ “الطبيعة” لا تقبل الفراغ، كان المشهد السنّي أمس “طبيعياَ” في زمانه وأوانه تحت عباءة دار الفتوى درءاً للإحباط ورأباً للصدع وشتات الأمر بين أبناء الطائفة السنية غداة انسحاب الرئيس سعد الحريري من المشهد السياسي وعزوفه، ترشّحاً وترشيحاً، عن خوض المعترك الانتخابي المقبل، فكان لا بد بالتالي من المسارعة إلى تلقف راية الزعامة السنية التي هوت، لئلا تتشلع تحت وطأة تناتشها بين ضفتي “الرايات السود” و”القمصان السود” فينهش التطرف بجناحيه السني والشيعي لحم الاعتدال الحيّ في غمرة اختلال التوازن العاطفي والسياسي الذي خلّفه “عزوف” الحريري على أرضية قاعدة شعبية مترامية الأطراف بين بيروت والمناطق.
وبهذا المعنى، بدت صورة زيارة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى السراي الكبير أمس، وما أعقبها من صلاة جُمعة جامعة للأبعاد الدينية والسياسية في اتحاد دار الفتوى والسراي الحكومي، أشبه بـ”صحوة سنية” من “سكرة عزوف الحريري”، على ما وصفتها مصادر مواكبة، توكيداً على أنّ الطائفة السنية لا تزال “متماسكة وممسوكة” ولا خوف عليها من التشرذم والتشتت، إنما هي قادرة على تجاوز كبوتها الراهنة واستنهاض أبنائها من “الصدمة النفسية التي خلفها قرار عزوف سعد الحريري وتهيئتهم نفسياً وانتخابياً إلى ضرورة التعامل بواقعية مع الواقع الجديد والشروع في الانتقال السلس نحو مرحلة ما بعد… سعد”!
وكما كان شكل الحدث، كذلك أتى مضمونه متسقاً ومتناسقاً مع الجهود المبذولة لتظهير التماسك على الساحة السنية، لا سيما في ما يتصل بمقاربة الاستحقاق الانتخابي المرتقب، حيث كان الكلام واضحاً وصريحاً إثر لقاء رئيس الحكومة ومفتي الجمهورية في معرض إبداء رفض قاطع لأي مقاطعة سنّية للانتخابات المقبلة في أيار… “فصحيح أن الرئيس الحريري أعلن عزوفه عن الترشح وخوض الانتخابات النيابية، لكن نحن حتماً لن ندعو الى المقاطعة السنية لما فيه خير الطائفة، ومن يرغب بالترشح فليترشح، والإنتخابات حاصلة في موعدها المحدد في 15 أيار المقبل”، وفق ما جزم ميقاتي، قبل أن يعود ويشدد، بُعيد مشاركته في صلاة الجمعة في المسجد العمري الكبير إلى جانب المفتي والرئيس فؤاد السنيورة ووزير الصحة فراس الأبيض وأمين عام مجلس الوزراء ورئيس المحاكم الشرعية السنية العليا ولفيف من العلماء والمشايخ السنة، على أنّ “الطائفة السنية لديها كل المؤهلات والقدرات للمشاركة في الانتخابات ولا يمكنها أن تقاطع، وما يعنينا بالدرجة الاولى أن تبقى الدولة ومؤسساتها قائمة وفاعلة”… وهو موقف نوّه به السنيورة وأثنى عليه مكتفياً بالقول رداً على أسئلة الصحافيين: “ما قاله الرئيس ميقاتي بخصوص عدم مقاطعة الانتخابات أمر جيد ولا قرار أيضا لدي بالدعوة لمقاطعتها”.
وكان المفتي دريان، قد أعرب خلال زيارته السراي الحكومي عن تقدير “الجهود التي يبذلها رئيس مجلس الوزراء في المجالات شتى، لا سيما في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، حيث يقارب المواضيع الوطنية والداخلية بروح المسؤولية العالية، وبما يتناسب مع الدور الوطني الجامع لرئاسة مجلس الوزراء”، بينما ثمّن ميقاتي “حكمة سماحته والمواقف الوطنية التي يعبر عنها لا سيما في هذه المرحلة الدقيقة، والدور الجامع الذي تمثله دار الفتوى”.
وتزامناً، اكتمل اليوم السنّي الحافل بالمواقف المتلقفة لكرة نار “العزوف” السياسي والانتخابي للحريري، بدخول شقيقه بهاء على ساحة الأحداث من بوابة إشهار عزمه على حمل راية الحريرية السياسية واستكمال مسيرة والده، قائلاً في كلمة متلفزة: “سوف أستكمل مسيرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأي تضليل أو تخويف من فراغ على مستوى أي مكون من مكونات المجتمع اللبناني يخدم فقط أعداء الوطن، فما بالكم التخويف بالفراغ في أكبر طائفة في لبنان التي لي شرف الانتماء اليها”.
وإذ أكد رفض التخلي عن المسؤولية “بوضع جميع إمكانياتنا في سبيل نهضة لبنان”، أردف مضيفاً: “عائلة الشهيد رفيق الحريري الصغيرة كما عائلته الكبيرة لم ولا ولن تتفكك، وبالشراكة والتضامن سوف نخوض معركة استرداد الوطن واسترداد سيادة الوطن من محتليها (…) ومستمرون في ما تعلمناه من والدي أننا أهل الاعتدال لا التطرف، الإعمار لا الانهيار، المواطنة لا التفرقة، السيادة لا الارتهان، وأهل العمق العربي”.