كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
كان طبيعياً أن نرى مشهد سعد الحريري معلناً الانسحاب من المعركة الانتخابية ومعلقاً نشاطه السياسي، فهو يدرك أنّه فقد مبرّر وجوده السياسي بعد أن تخلّى عن عناصر قوته وعن أساس ما جاء من أجله إلى السياسة، حيث كان يفترض به أن يكمل ما كان قد بدأ به رفيق الحريري في السياسة والإنماء والإعمار، من دون مقارنة بين الأب وابنه، الذي ورث مجداً عظيماً بالشهادة، وعلاقات دولية لا تُضاهى، وأموالاً تأتي إليه من كل حدبٍ وصوب، حتى يكون قوياً ببني قومه، وحتى يُنشئ في مناطقهم مؤسسات الصمود الاجتماعي والسياسي.
حَكَمَ الحريري سنواتٍ عدة، عجز فيها عن تحقيق أيّ إنجاز، لا في السياسة ولا في الإنماء، وتحوّل حاجةً لخصومه بعد أن قاموا بتدجينه سياسياً، إلى حدّ أنّه بات يعبّر عكس ما تقتضيه مصلحة من يمثلهم وعموم المصلحة الوطنية، وهذا ما يريد المدافعون باسمه أن يتجاهلوه ليصوروا لنا أنّه كان بطلاً حمى السنة والبلد من الإبادة في حرب أهلية قال هؤلاء إنها كانت ستندلع لأنّه رفض طلب السعودية مواجهة «حزب الله» في نظرية لا توحي إلاّ بالخمول الفكري والسياسي.
عدم جدوى تقاذف المسؤوليات ولإعطاء النقاش الفرصة الجدلية:
لنفرض أنّ القوات اللبنانية وجميع من يلقي سعد الحريري باللاّئمة عليهم في فشله، هم الذين خرجوا من الحياة السياسية أو انسحبوا من المعركة الانتخابية، هل كان حال سعد الحريري مختلفاً عن حاله اليوم؟ وهل كان سينجح حيث سبق أن أخفق؟
ما قدّمه سعد الحريري لم يكن مشروعاً سياسياً ولا فكرياً ولا حتى تنموياً، كلّ ما فعله أنّه أدمن القفز بين التنازلات حتى لم يعد لديه شيء يتنازل عنه، فلم يعد حاجة لأحد، إلاّ لمن يراه المتنازِل النموذجي في قوى 8 آذار النائحة على فقده والباكية على غيابه..
لا يملك الحريري حقّ التصرف بالسنة وكأنّهم إرثٌ شخصي، فأهل السنة هم أهل الدولة والاعتدال، وليسوا بحاجة إلى دروس من الذي أوصلهم إلى حالهم الكارثية الراهنة.
كيف فقد الحريري عناصر بقائه السياسي؟
كلّ حزب سياسي يحتاج أربعة عناصر للنجاح:
العنصر الأول: مشروعٌ سياسي اقتصادي تنموي شامل: وهذا ما لم يكن موجوداً مع سعد الحريري، الذي تحالف مع مافيا المال والسلاح وسلّم الأمر لها، فارتفع منسوب الفساد حتى فاض به البلد، وسيطر السلاح حتى دمّر كيان الدولة وسحقها، وأتى على علاقات لبنان الخارجية.
كانت حصيلة ما قام به سعد الحريري كارثية بعد أن تسبّب في هدر ملايين الدولارات التي خصّصتها دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لإقامة مئات المشاريع التي بقيت حبراً على ورق، وطارت الأموال وبقيت مناطق السنة جرداء قاحلة من الإنماء.
العنصر الثاني: هوية سياسية وطني وخطاب واضح يستقطب الرأي العام على أساسه. وواقع الحال أنّ تيار المستقبل تحوّل كائناً سياسياً مائعاً بلا هوية وفقد طعمه ولونه، وبهذا فإنّه خسر القدرة على التأثير في الجمهور، فضلاً عن انفصاله عن النخب منذ سنوات.
العنصر الثالث: هو التمويل. وبعد أن كان الحريري يستفيد من الثقة السعودية والخليجية به لتأمين التمويل لمشاريع مفترضة ولمؤسساته السياسية والإعلامية، أدّت سياسات الحريري الفاشلة إلى تفكيك وسقوط أمبراطورية «سعودي أوجيه» وتشريد مئات العائلات وضياع حقوق العاملين فيها وفي بقية المؤسسات، إلى أن غادر الحريري إلى الإمارات باحثاً عن رزقه، مدركاً استحالة خوض المعركة الانتخابية.
العنصر الرابع: هو العلاقات الخارجية. لطالما استند سعد الحريري إلى علاقاته الخارجية الواسعة والمتشعبة والتي كان له دور أساس في تمكنه من استقطاب الاهتمام الخارجي نحو لبنان، وبالتالي استطاع أن يكمل سلسلة المؤتمرات من أجل لبنان، رغم ما كان يحصل في أموالها من هدر وسرقات وفساد تقاسمته أحزاب السلطة الفاسدة.
بعد الصفقة الرئاسية، وبعد انكشاف إرادة الحريري بأن يكون أحد أركان سلطة «حزب الله» حتى بعد صدور قرار المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كان واضحاً أنّ الزعيم الأزرق فقد تدريجياً كلّ علاقاته الدولية والعربية، ولم يبقَ له منها سوى الإمارات التي تؤويه اقتصادياً، وترفض أن يمارس النشاط السياسي من أراضيها.
خسر سعد الحريري عناصر البقاء السياسي فحمل عوامل فشله ذاتياً.
تحدي ملء الفراغ: العشائر العربية والمجتمع المدني لاعبان جديدان
لكن في المقابل، يبرز الآن تحدي ملء الفراغ الذي تركه انسحاب الحريري وتياره من المعترك الانتخابي، حيث يبدو المجتمع المدني بمعناه الواسع مساحة تفاعل كبيرة، ومعه يظهر مكوّنٌ سنيّ صاعد استطاع أن يُثبت قدرته على الحضور وإدارة الأزمات بشكل لافت، هو العشائر العربية.
أثبتت العشائر العربية أنّها قادرة على الصمود في وجه تسلّط السلاح غير الشرعي بعد حادثة خلدة وتمكنت من الثبات في مواجهة لها أبعادها السياسية والأمنية الحساسة، واستطاعت تثبيت عوامل الثقة مع الجيش اللبناني، وكذلك أخرجت الأحزاب من دائرة الاستثمار على حسابها، وخاصة تيار المستقبل.
تبدو العشائر العربية متجهة لتشكيل مكتب سياسي وخوض الانتخابات النيابية على مستوى لبنان، كجزء من القوى السيادية التي تتمسك باتفاق الطائف وبالسلاح الشرعي للجيش اللبناني، وتؤكد على انتماء لبنان العربي بعمقه الخليجي والسعودي بشكل خاص، وقد برزت أهمية هذه المواقف خلال استقبال العشائر لمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في البقاع، وتأكيده على رفض اختزال السنة من أحد، وعلى أهمية العشائر كمكوِّن لبناني أصيل.
إنّ هذه الملامح تستوجب التقاء مكون العشائر مع المجتمع المدني السني، وهي جزء منه، للتفاهم على مقاربات تصلح لخوض الاستحقاق النيابي الداهم، على قاعدة التحالف مع الشركاء المسيحيين في الخط السيادي، وهذا ما يجب التعويل عليه، والعمل لأجله في قادمات الأيام.