كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
365 يوماً على الثالث من شباط ذاك. أتتذكرون؟ إستيقظنا يومها على خبر آخر فظيع: عُثر على الناشط السياسي المعارض لـ»حزب الله» لقمان سليم جثة داخل سيارته بين بلدتي تفاحتا والعدوسية في جنوب لبنان. قُتل لقمان. قتلوا لقمان. فهل انتصروا عليه بالدم؟ هناك، في شارع آل سليم في الغبيري، تأكدنا أن الحصان قد يموت لكن سرجه يبقى والإنسان قد ينتهي لكن اسمه، شاؤوا أم أبوا، سيبقى.
هدوءٌ بين عاصفة وعاصفة، سكون يُخيّم على المكان، ورود يفوح منها عطر البخور حول ضريحه. أشجارٌ كثيرة تُظلّل المكان. هنا يرقدُ لقمان سليم عاشق الأرض والكلمة والحقّ والعدالة والحريّة ولبنان. لقمان سليم المقاوم الحقيقي حتى الموت. عامٌ، بالتمام والكمال، مضى، وقتلته ما زالوا أحراراً يسرحون ويمرحون في بلد أصبحت الحياة فيه كورقة اليانصيب. شقيقة لقمان رشا، والدته سلمى، زوجته مونيكا يسكنّ في الجوار. تقف رشا على الشرفة فتراه في الحديقة. تُصلّي سلمى وهي تنظرُ إليه من شباكها. تلقي عليه مونيكا التحية الصباحية اليومية وتعده بمتابعة «المشوار». لقمان قُتل لكنّه لم يمت. قتل الجسد سهل. قتل الروح لا.
من قتل لقمان؟
سؤالٌ ساذج في دولة فاقدة كلّ عناصرها وأصبح القتل فيها من اليوميّات.
محبو لقمان شاؤوا إحياء ذكراه الأولى بالغار. غار لقمان سليم وهو من صخر وشمس وصفر خوف. هو مجسّم صاغه سليم مزنر سيُقدّم على شكل أربع جوائز إلى كل من ليلى حنا، التي آمنت أن وردة لقمان لن تذبل فاستحقت «غار لقمان» عن فئة جائزة الحدائق. وستنال جائزة أصوات المدينة ميساء جلاد التي غنّت في أربعينيته. وجائزة ذاكرة الدم سيحصل عليها فادي طفيلي الذي كتب ذات يوم سيرة وحيد الصلح الذي اغتيل في وسط بيروت. وسينال جائزة بالبرهان البروفسور نصري مسره لدراسته الميدانية لشبكات البغض التي حاصرت لقمان قبل وبعد اغتياله.
البغض سلاح الضعفاء
هناك، حول لقمان، سيتحلّق اليوم رفاقه وسيقفون برهة خشوع وصمت «على ارتجال الموسيقى». نعم، هناك، تبدلت كثيرا حال ناس البيت، وجيران الهنغار، الذي طالما جمع ثقافات ومثقفين وأنشطة وأصواتاً مرتفعة إلى جانب الحق. لكن رشا، بهدوئها الذي صعق الكثيرين، وعنفوانها الهائل المجبول بقوة ملفتة، تتابع، هي ومونيكا، كل التفاصيل لإبقاء لقمان، حيث هو، مبتسماً. تتحدث رشا عن شقيقها وكأنه في الغرفة المجاورة، وكأنه سيدقّ الباب بعد حين ويدخل، كأنه لم يُقتل غدراً على قارعة الطريق. تتكلم، كما تتصرف، بأناقة. وشقيقها، توأم روحها، لن يموت ما دام محبوه، بعد مماته، زادوا. ثمة أشخاص أصبحوا في عام أصدقاء لقمان حتى من دون أن يكونوا قد التقوه يوماً في حياته. هؤلاء سمعوا عنه وأحبوه ويقدمون الخدمات كي يبقى اسمه حاضراً. سليم مزنر أحد هؤلاء. عيسى بركات أيضا… هناك، في بيت لقمان، يحفظون اسما اسما من أصبحوا أصدقاء لقمان بعد وفاته.
يجلس بعض الأصدقاء القدامى مع أصدقاء جدد في بيت لقمان، ومن عرفوه زماناً يخبرون الجدد عن خصال الرجل ويسهبون. ونسمع ممّن يخبرون علاقته مع قلم الرصاص وقلم الحبر البنفسجي. هو كان يُحبّ أن يكتب بالحبر الـ»موف» ويهدي أقلاماً بهذا الحبر إلى معارفه. تُرى هل أحبّه لأنه يرمز الى الإعتدال الذي طالما نادى به؟ البنفسجي هو لون الوضوح ولقمان كان واضحاً كالشمس. إنه لون التوازن بين الأرض والسماء والروح والشغف والذكاء والحب والحكمة. ولقمان كان يمتلك من كلها الكثير. لكن، كما تعلمون، هناك من يردّ على الحب بالخيانة وعلى الوضوح بالقتل ويهرب من العدالة وهو معروف. أليس قاتل جو بجاني ظاهراً؟ أليس قتلة هاشم سلمان معروفين، بالوجه؟
بقدرِ ما نسمع في بيت لقمان لغة مفعمة بالحبّ بقدرِ ما واجه لقمان في حياته كثيراً كثيراً من الكراهية. هناك من يكرهون ويُبغضون أما هو فلطالما كرّر: البغض هو سلاح الضعفاء. إنه انتقام الجبناء.
ما دمنا تحدثنا عن الكراهية، فماذا عن «شبكة الكراهية» التي واجهها لقمان في حياته وتتابعت بعد مماته؟ الأستاذ في جامعة القديس يوسف في بيروت الدكتور نصري مسره أجرى بحثا حول ذلك. فماذا تضمن؟ وإلام خلُص؟
لم يحظ لقمان سليم، كما خلص مسره، بشعبية على تويتر مقارنة بالنشطاء الآخرين في لبنان، فعدد متابعيه لم يتجاوز 2894 متابعاً أما هو فتابع 1979 مغرّداً. لقمان، أنشأ حسابه في نيسان 2013، ومن حينها حتى مماته، غرّد 2362 مرة، بمعدل تغريدة واحدة يومياً. ومن التغريدات التي تم جمعها، يُستنتج أن لقمان ذكر سبع مرات حساب الجيش اللبناني على تويتر في إشارة إلى حقّ المواطنين في التظاهر السلمي من دون التعرض للأذى. كما سأل سبع مرات شرطة التحكم المروري عن أوضاع الطرقات. وهو تفاعل مع موقع syria_true الذي يدين السلفية ويدعو إلى بناء دولة سورية علمانية. كما كان يتفاعل غالباً مع النائب السابق فارس سعيد. وهو انتقد السفارة الأميركية في بيروت بسبب «مساعدة جيش لا يبالي بحق مواطنيه في التظاهر». ولدى تحليل نشاطه التغريدي تبيّن أنه لم يكن في حالة تفاعل متكررة مع حساب واحد معين.
ما هي المصطلحات الأكثر استخداما في تغريدات لقمان سليم؟ حزب الله، إيران، إسرائيل، حكومة، فرنجيه، حسان دياب، ميشال عون، سوريا، لبنان، طرابلس، الجيش.
ماذا عن «شبكة الكراهية» في تغريدات لقمان؟
يتحدث مسره: أن الإتهامات ركّزت على تعاون سليم مع إسرائيل. وبلغ ذكر إسرائيل ذروته، أي 1684 تغريدة يوم الإغتيال. وتبيّن أن شبكة الكراهية بين تلك التغريدات بلغت 1164 مغرّداً ومغرّدة. والإتهام كان قد تكثف في الأيام التي سبقت الإغتيال. وتبين أنّ تغريدة أطلقت في 10 كانون الأول 2019 إتهمت لقمان وغيره من السياسيين والناشطين اللبنانيين بأنهم متعاونون مع إسرائيل وأنهم سعاة تطبيع. وقد تمّت إعادة تغريد هذه المقولة عدة مرات يوم اغتياله في 4 شباط 2021.
وما دلّ إليه البحث أنه بعد دقائق قليلة من إعلان الإغتيال كتب نجل الأمين العام لحزب الله جواد نصرالله «خسارة البعض هي في الحقيقة ربح ولطف غير محسوب #بلا_أسف». وبعد برهة حُذفت تلك التغريدة.
مؤثرون كثيرون تبيّنت مشاركتهم في شبكة الكراهية ضد لقمان سليم. فماذا عنهم؟
أظهرت التقنية الخوارزمية التي اعتمدها مسره (أي التقنية التي تُستخدم للعثور على مجموعات تهتم بموضوع محدد داخل شبكة واسعة) وجود 27 مجموعة تتألف كل واحدة منها من مستخدمين اثنين إلى 211 مستخدماً. وتتألف الشبكة التي تضم أكثر من 50 متفاعلاً من سبع مجموعات تضم 10 قواد مؤثرين. يقود أحدها الصحفي حسين مرتضى وقد جرى دراسة تغريدتين مثبتتين له تتهم إحداهما لقمان بدعوة إسرائيل لمحاربة حزب الله وهذا ليس صحيحاً. وكتب مرتضى: «هذا هو لقمان وهذه هي مواقفه: أقتلوهم حتى في بيوتهم لتتمكنوا من القضاء على المقاومة». ناصر قنديل احتلّ بدوره المرتبة السادسة بين الحسابات المؤثرة في شبكة الكراهية التي تندّد بنشاط سليم. وقد تجنب قنديل الإتهام المباشر لكنه ركّز على رفض تورّط حزب الله.
وحلّ في قائمة المؤثرين أيضا عبدالله شمس الدين الذي ذكّر في إحدى تغريداته «أن مركز أمم للأبحاث مقره حارة حريك لذا إبحثوا عمن قتل لقمان ليستفيد من دمه». غفل هذا المغرّد المؤثر كل الدعوات الصريحة بالقتل على جدران مدخل سليم وبينها «المجد لكاتم الصوت». وكتابة «حزب الله شرف الأمة». و»خليك على إجر ونصف جاييك الدور». و»لقمان سليم الخاين العميل».
أسماء كثيرة دلّ إليها البحث في مشاركتها في «شبكة الكراهية» بينها اسم المغرّد حسين ميرزا الذي انضمّ الى تويتر في كانون الثاني 2020 وأطلّ من خلال جملة منسوبة الى عماد مغنية تقول «ما يقاتل فينا هو الروح». هو غرّد كثيراً عن لقمان أما تغريدته الشهيرة فتقول «عندما تنهي سيجارتك ترميها وتدوس عليها بحذائك. وهذا ما فعله الإسرائيلي مع لقمان». ومن الأسماء أيضا التي ذكرها البحث: علي مرتضى، فادي جوني، قاسم حدرج، قاسم شاهين…
لقمان سليم قُتل لكنه حيّ اليوم. هو حاضرٌ في الحديقة التي أحبّ. هو شاهدٌ، بالروح، على كل تفصيلٍ. هو قاطعٌ كان لكن بالكلمة، بالنقاش، أما سواه فيقطع بالسيف وبكاتم الصوت. القضاء يعمل. القاضي شربل أبو سمرا يتابع ملفه وهو لطيف، نشيط، نظيف على ما يبدو، لكن الملف، كما كل شيء في البلد، يتأخر. ماذا فيه؟ المعلومات ملك المحقق وقد يكون هناك من يراهن دائما على الوقت والنسيان والإنشغال في قضايا قتل أخرى. فهل ينجحون في ذلك كما نجحوا في كثير من ملفات الموت؟
وكأننا نسمع لقمان يقول، من حيث هو، إلى من يقتل بقلبٍ بارد حاقد «لا يستطيع إنسان أن يبني فوق الحقد فإنه كمن يبني فوق المستنقع».