IMLebanon

لقمان سليم ضحيّة إضفاء التنوّع لدى الشيعة

كتب الشيخ محمد الحاج العاملي في “نداء الوطن”:

شخص فريد، له أسلوب حياة خاص، يتعمّد ألّا يكون «إمّعة» قد لا يحبّه الكثيرون، وهو لم يكن يحبّ أن يحبّه الكثيرون، لأنه كان شخصاً نخبوياً، عاش حياته كما يريد؛ بل – بتقديري – أنه مات أيضاً بالطريقة التي يريدها.. فقد كان يردد عليّ دائماً: (يا مولانا الواحد مش لازم ينتخب أصدقاءه فقط؛ بل يجب أن ينتخب أعداءه كذلك) ولقمان (رضوان الله عليه) انتخب طريقة عيش خاصّة به، كما أنه انتخب طريقة رحيل، وصعود، وانتقال من هذه الدنيا أيضاً. حيث كانت مسألة «الحريّة الشخصيّة» مقدّسة عنده، فلم يكن يقبل أن يحدد له أي كان أي أمر يتعلّق بخصوصياته، هو وحده يحدد خياراته ورؤاه، وحاله بل ومآله.

كنتُ أوردتُ في وصيتي نصّاً قصدتُ به جملة من الأصدقاء على رأسهم الراحل الكبير لقمان سليم، ذلك عندما كنتُ أتعرض لذكر المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق الثلة الشريفة المعارِضة للثنائي، وفي محضر الراحل الكبير لقمان من الجيد أن أستعيد هذا النص الذي قلتُ فيه أثناء توجيه وصايا متعددة: (..وأما لمن كانت آراؤنا السياسية شبه متفقة، فقد كنّا أصحاب قضية، ورجال موقف، سيسجل التاريخ القريب جهادنا في سبيل إضفاء رونق جميل على الحياة السياسية للطائفة الشيعية، وبالتالي على الوطن.

كنّا نرفض الاحتكار والاستئثار والمصادرة، وفي كثير من المحطات كان نشاطنا السياسي مسؤولية أخلاقية بامتياز، لا سيما أن مسؤولية أن نوجد ونظهر التنوّع ضمن الطائفة، عرّضنا للخطر. فنحن نختلف في الرأي مع جسم غريب عجيب، غريب في أدائه، وعجيب في قدراته.

حيث إننا نضطلع بدور تاريخي في ايجاد التنوع ضمن البيئة الشيعية في لبنان، وأن جهودنا لها أبعاد أخلاقية ضمن الوسط الشيعي، وهذه بعينها كانت رؤية لقمان، الذي كان يردد: (هناك «فرصة» أننا شيعة في هذه الحقبة من الزمن)، أي أنه متاح لنا «فرصة» حالياً بأن نقوم بدور تاريخي حضاري، دور رائد في النضال، كي نخلق التنوّع والتعدد.

«تنوّع» يريد الثنائي أن يلغيه، يعمل «الرجلان» ليل نهار كي يضربا أي محاولة للتعبير عن حالات مبدعة خلّاقة في الوسط الشيعي اللبناني.

سر العلاقة بين رجل دين وعلماني

كانت علاقتي بلقمان تتجاوز الصداقة العادية، لتدخل في حيز من الانسجام والتفاهم على الأعم الأغلب من القضايا.. كانت له «مونة» ودالة عليّ، كما كان يقدّرني ويقف على رأيي في بعض الأحيان.. وفي السياسة كان انسجامنا كاملاً، حتى تكاد رؤانا لا تختلف اطلاقاً.

طبعاً كان يستغرب كثيرون كيف لرجل دين أن تكون له صداقة مع شخص «مدني» يعيش حياته الخاصّة بحرية تامة!

أتفهم ذلك، حيث إن من يطرح هذه الإشكالية ما زال لم ينضج فهمه للدين، وحقيقة الدين، طالما أنه ما زال يرى بأن الدين جملة «مظاهر» و»طقوس» ولا يعطي الدين بعده وفلسفته..

طبعاً لستُ مبالغاً إذا قلت إن لقمان قد يكون أقرب إلى الله من كثير من رجال الدين، الذين يرتدون الأزياء الدينية!

أقلها في الإسلام «الدين المعاملة» و»المسلم من سلم الناس من يده ولسانه».. لكن أنّى لمن يفهم الدين أنه مجرد «سبحة» و»لحية» و»جبين أسود».. أن يدرك أبعاد حديث رسول الله الذي يعتبر الدين هو مجرد معاملة حسنة، ولقمان كان على خلق رفيع.

قرابة عقد ونصف من الزمن ما وجدتُ لقمان أساء لأحد، أو أخطأ بحق أحد، أو تجاوز حدوده مع أحد؛ بل وجدته يساعد المعوزين، يحترم الصغير فضلاً عن الكبير، يتفاعل مع شؤون الناس وحاجاتهم، لا يتنصل من واجباته، حاضر حيث يجب أن يكون، وحيث يدعوه الواجب الوطني والإنساني.

انقطاع التواصل مع لقمان!

قبيل منتصف ليل بهيم عرفتُ بانقطاع التواصل مع «لقمان».. بدأ جو الحزن يخيم عليّ، أدركتُ أننا دخلنا في مرحلة جديدة، مرحلة مختلفة، بل بدأ عصر جديد؛ فقد صادفتُ عبر الفيسبوك خبراً على صفحتَي رشا الأمير شقيقة الراحل، وخبراً مماثلاً على صفحة زوجته مونيكا بورغمان.

إذ ذاك، مع بداية فجر الرابع من شباط؛ أجريتُ جملة اتصالات بعدد من الأصدقاء، وبقيتُ أجري اتصالات طوال الفجر، حتى طلع نهار الرابع من شباط، وخلال هذه الساعات بقينا نتداول بالأمر.. كان الأصدقاء يعتبرون الأمر طبيعياً، وأنه سرعان ما سيتم إعادة التواصل معه، والعثور عليه… لكنني كنتُ متشائماً، وكنتُ أصرح بأن شخصاً بحجم لقمان لا يمكن أن يؤخذ ليعود!! كنتُ قد اعتبرته في عداد الشهداء من قبل أن أعرف مصيره، لكوني أعرف حجمه، ومكانته، وحيويته، وفاعليته..

ولم أتمكن من النوم، بقي القلق يساورني، حتى أنني نشرتُ على صفحتي على الفيسبوك قبل معرفة مصيره: الخلاف السياسي حق، وأي حماقة ضده تؤكد مدى حضوره؛ وإن غاب.

أتمنى له السلامة، ولمجتمعنا المزيد من الوعي وتقبّل الآخر. وهذا النص يؤكد أنني كنتُ على يقين بوجود حماقة ضده..

سابقاً، لطالما تداولتُ مع لقمان في ما يخص المخاطر التي تحدق بنا، وكنّا على الدوام نتباحث في شأن التحديات، وأننا في طريق ذات الشوكة، وأن خصمنا السياسي لا يتورع عن كل المحرمات.

وهكذا حصل، لم يتورع خصمنا عن ارتكاب جريمة بهذا الحجم من الشناعة والقباحة؛ اغتيل لقمان!

عام على الإغتيال

وها هو عام على «الإغتيال» قد مرّ، لم يكن عاماً عادياً، كما كان اغتياله استثنائياً.

لقمان سليم في عداد ضحايا الإغتيالات! قد لا يكون في الأمر ما يجعل القضية غير طبيعية، لكن أن يُغتال مفكر وأديب وسياسي شيعي بالكيفية التي حصلت مع لقمان فإن ذلك يجعل الأمر غير طبيعي..

دلالات الإغتيال عديدة، إن لناحية إظهار مدى الحضور الذي بات عليه واقع حركة الاعتراض الشيعي، أو لناحية إظهار هزالة مئات الآلاف من الصواريخ التي يبدو أنها ستصدأ.

إن من يعرف لقمان يعرف أنه كان يدرك أن مصيره سيكون بهذا الشكل، أو ما شابه.. فلطالما دارت بيننا أحاديث حول صعوبة المرحلة، وحساسية الظروف، بل دارت أحاديث حول المستجدات السياسية في أكثر من عاصمة عالمية وإقليمية!!

لقمان كان يدرك أن دون الاعتراض السياسي الكثير من المخاطر؛ لكن بنفس الوقت كان يؤمن بأن الاعتراض السياسي الشيعي اليوم هو واجب، ومسؤولية، وأنه لا خيار لنا بهذا الشأن، بل هناك واجب، ودونه الكثير من التحديات، وأنه علينا أن ننهض بهذا الواجب.

هاجس التنوع

خلال جلساتنا – التي امتدت على مدار أكثر من عقد من الزمن – ونحن نسعى للتعبير عن شيء جديد في الطائفة الشيعية، كان يظهر على لقمان أنه يستحكم به هاجس حول كيفية ايجاد التنوع ضمن الوسط الشيعي، انطلاقاً من قناعته بأنه لا يجوز أن يستمر الاحتكار السياسي الذي يمارس اليوم، والذي يسيء للشيعة ولتاريخهم ولدورهم، بل ولمستقبلهم.

كانت قناعته بأن إضفاء طابع التنوع والتعدد ضمن الطائفة هو واجب أخلاقي ووطني، علينا عدم التقصير فيه، بالرغم من أن لقمان لم يكن طائفياً، بل وليس ملتزماً بالفكر الديني، ولا بطقوسه، حيث إنه عاش حياته يسارياً في بداياته، ثم علمانياً بقية حياته وحتى رحيله.

لم تكن عدّة رصاصات هي التي اغتالت لقمان؛ بل أخذ مسار الإغتيال عقداً من الزمن.. كل يوم كان يتم اغتياله، واغتيالنا..

على مدار أكثر من عقد من الزمن لم تقف الشتائم، وحملات التخوين، والشيطنة، وتشويه السمعة… وهذه المراكمة هي التي أوصلت إلى هذه النتيجة، إلى إراقة دماء لقمان.

بعيد منتصف ليل في العام 2012 خابرني الراحل (رضوان الله عليه) متسائلاً: هل ما زلتَ مستيقظاً، ممكن نلتقي ندردش في أمر ما، نقوم بجولة في السيارة… وافقتُ على الفور، جاء إلى منزلي قرابة الواحدة ليلاً، أخذنا جولة في النقاش، وجولة بين المنارة وأنحاء متعددة من بيروت، بالسيارة، عبّر لي عن مخاوفه من نشر إحدى الصحف مقالاً في الغد – كان قد قرأه إلكترونياً قبل صدور العدد الورقي – تتهمه بتهم باطلة، وكان يعبّر عن تلك الوسيلة الإعلامية بأنها (إعلام حربي).. وهكذا؛ لطالما عاش الراحل بتحديات على الدوام، ليس أقلها الغزوة التي تعرضت لها خيمته في وسط بيروت، في خضم اندلاع الانتفاضة الشعبية في العام 2019..

ويفترض الإشارة الى ان هذا المسار الطويل من الحرب ضده لا يقل خطورة وإساءة عما حصل في 3 شباط 2021.

ومن الأمور الملفتة، وغير المتوقعة، هو ما حصل عقب الإغتيال؛ فبدل أن يخجل البعض – ويصمتوا على الأقل – لكن وقاحتهم وإجرامهم جعلاهم يستمرون في حملة التخوين والشتائم، لم يراعوا حرمة «الموت» حتى..

ولم يشعروا بضرورة المجاملة في هكذا حالات!!! لم يقوموا بالتعزية مثلاً، كما قد يحصل عند الإغتيالات… بل أمعنوا في الشتم، بل والبهتان، وكأنهم يريدون الإقرار – على طريقتهم – بأنهم هم وراء الإغتيال، وهم المسؤولون عنه.

طالما أن الإعلام اقتصر في ذكره عن لقمان أنه «مجرد معارض لحزب الله» يعني أنهم لم يفهموا «لقمان» بعد!

ففي شخصية لقمان جوانب عديدة، ولديه ملكات فكرية وشخصية مهمة للغاية: لقمان صاحب «كاريزما»، مفكر بكل ما للكلمة من معنى، أديب ولغوي، مفوّه وخطيب، سياسي ومثقف… أما معارضة «حزب الله» فهي شيء عابر في شخصيته، والتركيز عليها هو تقزيم للقمان، ولدوره وحضوره.

بالمحصلة؛ فإن شهادة لقمان سليم تمثل خسارة كبيرة للإنسانية، وليس لفئة معينة، كونه كان يحمل ثقافة إنسانية، ويتحلّى بمناقبية رفيعة، وسيُعرف قدره تباعاً، سيكتشف اللبنانيون – والشيعة منهم بشكل خاص – أهميته يوماً ما، وسيعرفون بأنه قيمة قل نظيرها.

وأما نحن، أصدقاؤه، فإنه لا يوجد ما يعوضنا عن فقده، كوننا نعرف قدره، وسنبقى نستذكره عند كل تحدٍّ، وأمام كل تضحية، وفي كل جبهة سياسية، وعند صياغة كل بيان، ومع نشر الكتب والإصدارات..

ستبقى صورته ماثلة في ذاكرتنا، بعفويته وطفولته، بهدوئه، وضحكته، بمناقبيته وصدقه، بنشاطه وحضوره، بأناقته وهندامه، بعجقة كتبه وملفاته لكن بفكره المنظم والمرتب.

سيبقى الشخص الكبير الذي عجز قاتلوه عن فهمه، وسيعجز قاتلو جسده عن قتله المعنوي، بالرغم من فناء الجسد، لكن فكره وأخلاقه سيستمران بمقارعة القتلة والمجرمين، المعروفين بأسمائهم.. و»لعنة لقمان» ستلاحقهم وستبقى تقضّ مضاجعهم على الدوام، حتى إحقاق الحق وإزهاق الباطل.