كتب جان فغالي في وكالة “أخبار اليوم”:
” بكركي من عركي لعركي
لا نورا ولا زيتا شَح
كلن عم يحكو تركي
وحدا بكركي بتحكي صح”
هذا البيت من الشِعر الزجلي ، كان يحلو للبطريرك التاريخي الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، أن يردده أمام زواره الذين يقصدون الصرح للاستفسار من سيدها عن عبارةٍ او جملة أو مقطع ورد في عظة قداس الأحد، وقد اعتاد المسؤولون والسياسيون وعامة الناس أن يستمعوا إلى العظة، ولاسيما إلى المقطع الأخير منها ، ليعرفوا موقف الصرح من التطورات. كان البطريرك صفير يكتب العظة بنفسه على الكومبيوتر، ولم يكن يستعين بأحد في طباعتها، ويبقيها طي الكتمان إلى حين تلاوتها في القداس.
سار البطريرك بشارة الراعي على هذه الخطى، ولكل عظة وقعُها لِما تحمله من مواقف من التطورات.
في عظته أمس الأحد، البطريرك الراعي دقَّ ناقوس الخطر في ما يتعلّق بالقضاء، وجاء تحذيره بعد الخطوات التي قامت بها القاضية غادة عون في حق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
فيقول في العظة: “بعض القضاة يفقدون استقلاليّتَهم ويَخضَعون للسلطةِ السياسيّةِ ويُنفّذون توجيهاتِها من دون تقديرِ خطرِ هذه الممارساتِ على مصلحةِ لبنان العليا. فلا بُدَّ من رفعِ الصوت بوجْهِ السلطةِ السياسيّةِ لترفعَ يدَها عن القضاء، وتحترم فصل السلطات، وبوجْهِ بعضِ القضاةِ الّذين يُسيئون إلى رسالةِ القضاء واستقلاليّتِه بتلوينه السياسيّ والطائفيّ والمذهبيّ، وبجعله غبّ الطلب، ما يوقع القاضي في حالة الشبهة.” .
كلامٌ كبير حين يتحدَّث البطريرك الراعي عن “وقوع القاضي في حالة الشبهة”! فهل يحرِّك هذا الكلام، الذي هو بمثابة إخبار، التفتيش القضائي؟
ويتابع البطريرك الراعي في عظته: ” إنّا نُهيب بالمرجعيّاتِ القضائيّةِ العليا بأن تَخرُجَ عن تردُّدِها وتَضعَ حدًّا لـ “الجزُرِ القضائيّةِ” داخلَ القضاء. نحن نطالبُ بمحاكمةِ جميعِ الفاسدين الذين بدّدوا المال العام وأوصلوا البلاد إلى الإنهيار السياسيّ والإقتصاديّ والماليّ، لا أن تَنتقيَ السلطةُ شخصًا واحدًا من كلِّ الجُمهوريّةِ وتُلقيَ عليه تبعاتِ كلِّ الأزْمةِ اللبنانيّة وفشلِ السنوات الثلاثين الأخيرة. هذا أفضلُ أسلوبٍ للتغطيةِ على الفاسدين الحقيقيّين وتهريبِهم من وجهِ العدالة، وأقصر طريق لضرب ما بقي من النظام المصرفيّ اللبنانيّ، وتعريض بعض المصارف للإفلاس، وضياع أموال المودعين. ينبغي التنبّه إلى مخطّط يستهدف استكمال الإنهيار.”
حين يتوجه البطريرك الراعي إلى “المرجعيات القضائية العليا”، فهو بذلك يخاطب وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى ومدعي عام التمييز ليتحركوا في اتجاه قضية بالغة الخطورة وهي “وضع حد لـ “الجزُرِ القضائيّةِ ” داخلَ القضاء.
لعله أخطر اتهام يوجَّه من أعلى سلطة كنسية في حق القضاء اللبناني من خلال الحديث عن “الجزر القضائية”، وهذا ما يذكِّر بـ”الجزر الامنية” الخارجة على أي قانون، فهل وصل “الخروج على القانون” إلى القضاء؟
يصل البطريرك الراعي إلى بيت القصيد في عظته ، فيُنبِّه: “أوْقفوا الإضرارَ بسُمعةِ لبنان والنقدِ اللبنانيِّ والمصرفِ المركزيِّ والجيشِ والقضاءِ، وهي ثلاثيّة الاستقرارِ والأمنِ والعدالة! ليس كذلك يتمّ التفاوض مع صندوقِ النقدِ الدوليِّ والدولِ المانحة، وليس كذلك تُعيدون أموالَ المودعين إلى أصحابها، وهي أصلًا ديون على الدولة يتوجب عليها إيفاؤها، وهي أولويّةَ الأولويّات ولا حل من دون إيفائها. فإذا ضبطت الدولة مداخيل الجمارك في المطار والمرافئ والحدود، وإذا استثمرت ممتلكاتها، استطاعت إيفاء ما عليها من ديون، فتعود للمواطنين ودائعهم.”
هل وصلت الرسالة إلى مَن يعنيهم الأمر؟
“شبهة على قضاة … جزر قضائية … الإضرار بالمصرفِ المركزيِّ والجيشِ والقضاءِ، وهي ثلاثيّة الاستقرارِ والأمنِ والعدالة”.
هذه الثلاثية هي في مواجهة “ثلاثية البيانات الوزارية ” (الجيش والشعب والمقاومة)، وهذا هو الصراع الحقيقي بين ثلاثيتين، ولا مكان في هذا الصراع للتردد أو للتخاذل، فهل تشكِّل عظة البطريرك الراعي “خارطة طريق “للإنقاذ؟ أم أن “الجزر القضائية ” ستواصل تنفيذ ما وُضِع لها من خطط في “المقرات الرئاسية”؟