كتب وليد شقير في “نداء الوطن”:
مع وصول الوسيط الأميركي آيموس هوكشتاين إلى بيروت بات رجال الحكم أمام تحدي اتخاذ الموقف الذي تحتمه مصالح لبنان، بالتمييز بين المناورات المفتعلة التي منشأها «الخزعبلات» الداخلية والمحلية الناجمة عن التنازع على السلطة، وبين المواقف المنتمية إلى حسابات إقليمية تتعلق بالتشدد تجاه الجانب الأميركي لأسباب لا تتعلق بالمصلحة اللبنانية في تحصيل الحقوق والإفادة من الثروة النفطية والغازية الدفينة في البحر، وبين الموقف المنطلق من حاجة لبنان الفعلية لبدء استغلال هذه الثروة التي باتت ركناً أساسياً في أي خطة إنقاذية لاقتصاده المنهار وماليته المعدومة.
طال الوقت المهدور في التعاطي مع هذه المسألة الحيوية. وهدر الوقت لم يبدأ فقط في العام 2010، حين بدأ الحديث عن تحديد حدود لبنان البحرية، بل بدأ منذ أواخر التسعينات، بعد أن أشرف الرئيس الشهيد رفيق الحريري على إجراء مسح للشاطئ اللبناني بحثاً عن مكامن وحقول غاز، فجاءت نتائج المسح الأولي واعدة.
على ذمة العارفين، اضطر رفيق الحريري إلى طَي الملف موقتاً في حينها لأنه كان ممنوعاً على لبنان أن يبدأ خطوات جدية للاستكشاف والتنقيب في عرض البحر ليتحول إلى دولة نفطية ومنتجة للغاز، لأنه أمر يعزز اقتصاده واستقلاليته عن الوصاية السورية، من جهة، وطالما أن الشقيقة لم تبدأ خطوات من هذا النوع. أي أنه فُرض على لبنان في حينها ألا يتمتع بهذه النعمة. فمنطق الوصاية كان يقوم على ألّا يتعزز ويقوى اقتصاد لبنان حتى لا يرتكز على قاعدة اقتصادية صلبة تمكنه من التطلع إلى قيام دولة قوية. كانت القاعدة أن تبقى الدولة ضعيفة حتى تستمر بحاجة إلى «المساعدة» بسبب ضعفها.
تستوي مع هذا المنطق في الظروف الحالية، الحجة القائلة بأن لبنان ما زال محتاجاً إلى سلاح المقاومة من أجل الدفاع عن حقوقه في البحر التي تنازعه عليها إسرائيل، في مقابل الاعتقاد الأميركي بأن سعي واشنطن إلى وساطة جدية وفاعلة بين لبنان وإسرائيل من أجل ترسيم الحدود البحرية والبرية، ينهي التذرع بهذه الحجة التي يستند إليها «حزب الله» من أجل مواصلة احتفاظه بسلاحه. هذا مع أن الحجج لا تنضب في مواجهة الضغوط الدولية لتحييد لبنان عن صراعات المنطقة التي يقحمه فيها الحزب ويتسبب بتدهور علاقاته العربية، فضلاً عن تصاعد الخلافات الداخلية حول سياسته بالتدخل في حروب اليمن وسوريا وفي الأوضاع الداخلية السياسية والأمنية للدول الخليجية استناداً إلى أجندة إيرانية.
في اختصار إبقاء مسألة الحدود البحرية موضوع نزاع مع إسرائيل يبقي المشكلة معلقة لاستخدامها وسيلة لإرسال الرسائل إلى الدول المعنية بالصراعات الإقليمية التي لا علاقة للبنان بها.
أما المناورات المحلية التي تأخذ طابعاً مكشوفاً، والتي ترهن المفاوضات على الترسيم لأهداف سياسية محلية فهي ناجمة عن اعتقاد من هم في الحكم أن بالإمكان الاستفادة من قضية لها أبعاد إقليمية من أجل تحسين مواقع داخلية. وفضلاً عن أن أكثر من فريق في السلطة يريد الإمساك بزمام المبادرة في تحول لبنان إلى دولة نفطية لأن للاستثمار فيها منافع مالية وتجارية وتوظيفات عبر عقود مع الشركات العالمية، فإنها في اعتقاد البعض تحسّن مواقعه في السلطة… فحين خلف هوكشتاين في أواسط العقد الماضي الوسيط الأميركي الأول فريدريك هوف، الذي اقترح حلاً موقتاً للخلاف يقضي بحصول لبنان على 56 في المئة من الـ864 كلم مربعاً، على أن تحصل إسرائيل على الباقي من دون أن تستغله في انتظار الاتفاق النهائي، رفض المفاوض اللبناني الرئيسي في حينها رئيس البرلمان نبيه بري هذا المخرج مصراً على كامل المنطقة البحرية حتى الخط 23، عندما عاود هوكشتاين طرحه. إلا أن وزير الطاقة في حينها أبلغه أن هذا الحل مقبول منه، لكن السير به يتطلب مجيء العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وعندها يتم الإتيان برئيس للحكومة يماشي عون في هذا المخرج، وفي هذه الحال لم يتمكن الرئيس بري من معارضته. كان القبول بتجديد هوكشتاين (خلال وساطته الأولى التي تركها مع انتخاب دونالد ترامب وعاد فجرى تعيينه مع انتخاب جو بايدن). هذا ما حصل أثناء الفراغ الرئاسي الذي دام من أيار 2014 حتى تشرين الأول 2016.
وعندما جرى اختراع الخط 29، ثم تراجع الرئيس ميشال عون عن توقيع مرسوم تبنيه بدل الخط 23 في العام 2020، سعى رئيس الجمهورية إلى مبادلة تساهله بقبول الخط 23 بدلاً من الخط 29، بمطالبة نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند حين زارت لبنان في 13 تشرين الأول 2021، أن يتم رفع العقوبات عن باسيل فكان جوابها أن هذا أمر غير ممكن لأنه من اختصاص وزارة الخزانة. وكل ما على جبران أن يفعله هو رفع دعوى…
فهل من مناورة جديدة يحضرها الفريق الرئاسي مع وساطة هوكشتاين الثانية، على طريقة العشاء السري، بعد التلويح بالعودة إلى تعديل الخط 23 في الرسالة التي بعث بها عون إلى مجلس الأمن ضد الاحتجاج الإسرائيلي على دعوة لبنان إلى دورة تراخيص جديدة للتنقيب عن الغاز والنفط؟ وهل هذا النوع من المناورات لأهداف إقليمية أو محلية بحت، يفيد لبنان في استثمار ثروته الدفينة في البحر؟