كتب ميشال الشماعي في “نداء الوطن”:
لبنان والمسيحيّة توأمان لا ينفصلان. وما نجحت مسيحيّة لبنان بتحقيقه مع المسلمين فيه يكاد لا يوجد في أيّ بلد من بلدان العالم كلّه. وهذا ما يجب التنبّه إليه، ذلك التساوي الكياني الذي إن بَطُلَ في لبنان يبطُلُ مفهوم وجود لبنان كلّه. فهذا المغزى الحضاريّ هو فذّ بوجوده، ودقيق في حال التأمّل به، وله أبعاد روحيّة وكيانيّة جعلته ظاهرة فريدة من الظواهر الوجوديّة في العالم بأسره، لأنّها تعرّي تاريخ صراع الحضارات من أهميّته القبيحة، ولأنّها بدورها أشدّ إيغالاً في أبعاد المستقبل الإنساني. وهذا ما لم يحدث بعد في التاريخ الإنساني كلّه.
ولا نغالي إذا جاهرنا بذلك. فبعد أكثر من ألف وأربعمئة سنة ما زال مسيحيّو لبنان، الموارنة بالتحديد، يحتفلون بعيد شفيعهم، القديس مارون، في التاسع من شباط، وعلى وقع هذا العيد تتزاحم الأحداث والاستحقاقات والمصائر. ولا يمكن إغفال التاريخ ونكرانه كما يحاول اليوم محور الممانعة بقيادة «حزب الله» وحليفه البرتقالي تحقيق ذلك. وبالطبع واهم مَن يؤمن بأنّه يستطيع ذلك. فموارنة لبنان خرجوا من قوقعتهم يوم خرجوا من وادي قاديشا وساحوا في لبنان كلّه من كيليكية حتّى النّاقورة والقرى السبع وصولا إلى حيفا وعكّا آنذاك. حتّى تمكّنوا من تثبيت لبنانهم كيانيّا في العام 1920.
وما نجح المنتدِب الأجنبي به هو وهم الموارنة بالمارونيّة السياسيّة حتّى أصابتهم النشوة السياسيّة فسقطوا في الخطيئة الكبرى، أي الكبرياء لأنّهم تخلّوا عن تواضعهم القنّوبينيّ. ولم يعرفوا قيمة ما اقترفته أيديهم بحقّ بعضهم بعضا أوّلا، إلا عندما خبروا طبيعة حكم غيرهم للبنان الذي أنشأوه. لا! وألف لا، الموارنة ليسوا أسيادًا في هذا البلد، بل هم قادة فيه وخدّام لشعبهم ولشعب بلدهم. ومتى تخلّوا عن هذه الصفات المارونيّة بناسوتيّتها سقط لاهوتهم الروحي ووقعوا في شرك الكبرياء.
وهذا ما خسروه في لبنان عندما تخاصموا. وما خافهم أحد إلا عندما تصالحوا. لكن المهمّ أن يستعيدوا الريادة اللبنانية لينجحوا اليوم بنقل لبنان من القوقعة الفئويّة إلى رحاب اللبنانيّة السياسيّة. هذا المصطلح الذي أطلقه قادة الفكر اللبناني اليوم يجب أن يتواءم مع مصطلح الكيانيّة اللبنانيّة لأنّ جوهرهما واحد وهو: لبنان الحرّيّة.
أمّا اليوم فما زلنا في قعر الانحطاط بسبب وجود قسم من مجموعة حضاريّة لبنانيّة، أعني هنا بالتحديد «حزب الله»، مصرّ على قوقعة لبنان ووضعه في القمقم المذهبي الذي يناسب أيديولوجيّته التوتاليتاريّة فقط. والمؤسف في ذلك كلّه وجود فروع من المجموعات الحضاريّة التي تكوّن النسيج اللبناني جعلت من نفسها أحصنة طرواديّة سمحت لـ»حزب الله» بالتسلّل الحضاريّ إلى داخل المجموعات الحضاريّة اللبنانيّة. أعني هنا التيار الوطني الحرّ الذي أدّى المهمّة بنجاح في المجموعة المسيحيّة، إضافة إلى تيار المردة الذي يملك رؤية واضحة لمشروعه السياسي المتوائم مع مشروع الحزب. وسنّة 8 آذار الذين لعبوا الدّور نفسه في المجموعة السنيّة، إضافة إلى الدّروز الذين أعلنوا الولاء المطلق للخطّ السوري أي الحزب الديمقراطي وحزب التوحيد، على تمايزهما الدّائم وتماهيهما مع خطّ المختارة التاريخي الذي لا يستطيع الخروج من الكيانيّة اللبنانيّة.
والهدف من ذلك كلّه هو تشكيل وحدة كيانيّة جديدة تقوم على الغلبة الفئويّة تماشياً مع الخطاب الفوقي الذي يخاطب فيه قادة «حزب الله» اللبنانيّين فيصنّفهم بين أسياد وعبيد تارة، وبين وطنيّين وعملاء تارة أخرى. على أن يكون ذلك كخيار للبنانيّين الذين قرّروا الرضوخ، وجعلوا من أنفسهم مطايا لمشروع الحزب الأيديولوجي. وهذا ما أدّى إلى ضرب نظريّة العمق الحيويّ للبنان الوجود. أعني هنا العمق العربي الاستراتيجي. فنجح «حزب الله» وحلفاؤه ولو جزئيّاً بعمليّة عزل للبنان عن هذا المحيط جيوبوليتيكيًّا، وجعلوه ورقة تفاوضيّة بيد أسيادهم في إيران.
ما يجب تمييزه هنا أنّ المجموعة الحضاريّة الشيعيّة تملك بعداً كيانيّاً لبنانيّاً صميماً بدأ مع كيانيّة جبل عامل. وهذا ما أزعج مشروع الحزب. ولم يتوانَ عن محاربة هذا الفكر في حروبه مع إخوته في ثمانينات القرن المنصرم حتّى نجح بتطويع مجتمعه، تطويعا يكاد يكون كلّيّا. ولا يمكن فكّ أسر اللبنانيّين من هذا السجن العقائدي إلا بتثبيت اللبنانيّة السياسيّة في صلب المشروع الكياني اللبناني الكبير. لا سيّما وأنّ مَن يناهض مشروع التطويع اللبناني قد اتّعظ من تجارب التاريخ، وبات يشكّل اليوم أكثريّة حقيقيّة تعمل على تثبيت فكر المؤسّسات الحقيقي على قاعدة ثالوث الوطن والحريّة والإنسان.
ويبدو اليوم أنّ هذه القناعة قد تبلورت أكثر في الوسط اللبنانويّ أكثر من غيرها من قناعات تنادي بالعلمانويّة أوالاسلامويّة المذهبيّة المبطنة أو حتّى المسيحانيّة بأبعادها السياسيّة المثقلة بصراعات التاريخ. من هنا، نفهم مدى تخوّف المحور الذي يقوده «حزب الله» في لبنان من أيّ عمليّة قد تسمح بالتغيير، لأنّ الفكر قد نضج وبات حقيقة ينشد التغيير والتحوّل نحو اللبنانيّة السياسيّة التي تعتبر اليوم بعد التجارب التي نجا منها اللبنانيّون الرابط المشترك الوحيد الذي ممكن أن يحوّل مجموعة الشعوب اللبنانيّة، كما كان يسمّيها المفكّر جواد بولس، إلى شعب واحد.
والترجمة العمليّة لهذا الهدف تتحقّق في الانتخابات اللبنانيّة القادمة بكلّ أشكالها: نيابيّة ورئاسيّة وبلديّة واختياريّة ونقابيّة. وإن لم يرد «حزب الله»، أو أيّ مجموعة حضاريّة في لبنان، لنفسه ما يريده للآخرين فهذا برهان ساطع على رغبته بالسيطرة والتسلّط، لو لم يظهر ذلك. مع شرط ألا يقبل لا هو ولا غيره لنفسه بأقلّ ما يريده غيره لنفسه. على أنّ الإيمان بالحريّة والأمان واحترام الأمن والاستقرار، في البحر أو في البرّ، لا تريبط بأيّ اعتبار ديموغرافيّ أو اتّجاه سياسيّ أو عقائديّ.
ومن له أذنان للسماع… فليسمع!