لطالما عرف لبنان الاختلاف السياسي بين مكوناته، وفي أحيان كثيرة كان هذا الاختلاف يصل إلى حد التصادم الميداني، فشهدنا حروبات ومواجهات عدة منذ القرن التاسع عشر وصولاً إلى أيامنا هذه. لكن لبنان لم يشهد قطّ محاولات تُذكر للتطاول الوقح على المقامات الدينية الرفيعة، وفي طليعتها الكنيسة المارونية وصرح بطريكيتها وسيّده باستثناء محطات نادرة، كما فعل مناصرو العماد ميشال عون في العام 1989 يوم تهجّموا لفظيا وحتى جسدياً على البطريرك صفير ما اضطره إلى الانتقال إلى المقر الصيفي في الديمان، وكما فعل أذناب الوصاية السورية مع بطريرك الاستقلال الثاني الراحل الكبير مار نصرالله بطرس صفير بعد نداء المطارنة الموارنة الشهير في أيلول الـ2000 فتوعّدوا بأن ينبت العشب على أدراج بكركي، وكما يفعل الآن أبواق “حزب الله” باتهام البطريركية المارونية وبطريركها بأنهما يحميا النظام العفن في لبنان بذريعة أن بطريرك الموارنة يرفض الاستنسابية في استهداف حاكم مصرف لبنان من قبل مجموعة حكّام فاسدين يشكّلون أدوات للهيمنة الإيرانية على لبنان!
من يهاجم بكركي وسيّدها ينقصه الكثير من الثقافة الأخلاقية حكماً ومن الثقافة التاريخية حتماً. فبعيداً عن الأخلاقيات في التعاطي غير الموجودة لدى فريق امتهن الاغتيالات والتصفيات والاجتياحات، لا بدّ من التركيز على أهمية استخلاص العبر من الدروس التاريخية في التعاطي مع الصخرة التي بُني عليها لبنان. فبالعودة إلى الأمثلة السابقة، تهجّم العماد ميشال عون على بكركي في الـ1989 فسقط في هو الـ1990 وبقيت بكركي وسيّدها. ومن هاجموا بكركي بعد ندائها الشهير في الـ2000 بأوامر سورية عادوا وزحفوا إليها طالبين الغفران والبركة أما النداء فأسّس ليكون انطلاقة لـ”انتفاضة الاستقلال” التي تحققت في 14 آذار 2005 ولينسحب جيش الاحتلال السوري ذليلاً في 26 نيسان 2005 وتحوّل مار نصرالله بطرس صفير إلى بطريرك الاستقلال الثاني. ومن يعود بالذاكرة أكثر يتيقّن أن ما من أحد هاجم بكركي مهما علا شأنه إلا ومُني بخسارة كبرى لأن بكركي لطالما كانت تنتصر للبنان!
وفي ملف الهجوم الهجوم الحالي على بكركي فإنه من المثير للسخرية أن تتجمّع مجموعة كبرى من السياسيين الفاسدين، والذين يؤمن “حزب الله” الغطاء لوجودهم في السلطة، لاستهداف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومحاولة تحميله مسؤولية كل ما آلت إليه الأمور المالية والاقتصادية في لبنان، في حين كان الحكام يمعنون في الفساد والمحسوبيات والزبائنية والصفقات وإغراق إدارات الدولة بالمحاسيب ويرفضون إجراء أي إصلاحات رغم كل مناشدات المجتمع الدولي من أيام مؤتمرات باريس وصولاً إلى مؤتمر “سيدر” مروراً بكل مناشدات صندوق النقد والبنك الدولي وكل الدول الغربية والعربية. فمن كان منكم بلا خطيئة فليرجم سلامة بحجر، أما أن يتم إلصاق كل الموبقات في هذا البلد بحاكم المركزي فإن الأمر يصبح تجنّياً غير مسبوق.
ما سبق لا يأتي في إطار الدفاع عن رياض سلامة إنما في إطار شرح موقف البطريرك الماروني من ملف حاكم المركزي. ولعل الأكثر خطورة في مقاربة ما سبق أن استهداف رياض سلامة يأتي ضمن مخطط شامل يتم فيه استهداف قائد الجيش العماد جوزف عون ورئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع بعد أن تم أيضاً استهداف رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود لحمايته المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ القاضي طارق البيطار ورفض عبود تسخير القضاء لرغبات رئيس الجمهورية وفريقه السياسي.
في الخلاصة يتّضح أن كل الهجوم يأتي في إطار تقويض صورة لبنان الذي نريده: لبنان السيادة والتنوّع والحريات والاقتصاد الحر والمركز المالي الأساسي في الشرق الأوسط، وكأن من ينفّذ هذا المشروع بعد ضرب القطاع المصرفي والقطاع التربوي والقطاع الاستشفائي إنما يسعى لتنفيذ ما كان أعلن عنه رئيس كتلة نواب “حزب الله” النائب محمد رعد الذي أكد أن “لبنان السياحة والسهر والاحتفالات لا يشبهنا ونريد أن نبني لبنان الذي يشبه المقاومة”.
هذا ما يريدونه… هذا هو مشروعهم… وسنقاومه بكل ما أوتينا من عزم إلى جانب سيد بكركي وجميع السياديين الأحرار في هذا البلد لنرفع الاحتلال الإيراني عن وطننا ونُسقط حكم أزلامه!