كتب وليد شقير في “نداء الوطن”:
عندما يصاب المسؤول بالكآبة وتتملكه القناعة بأن السلطة مصدر اعتزاز وعناد، ويستغرق بأوهام القوة وشدة العزيمة، مهما كانت تدميرية، ويؤلِّهه مريدوه وأنصاره، فيمتلكه الانطباع بأنه على حق وسائر الناس هم على خطأ، لا بد من أن يخطئ التقدير والحساب ليغرق أكثر في ما هو فيه.
لطالما شهد المسرح السياسي في لبنان زعامات وقيادات من هذا النوع. لكن بعضهم سرعان ما كان يتراجع جراء الصدمات التي يتلقاها ويعدل من مساره. والبعض الآخر يبقى أسير ما يواجهه فتتضاعف العبثية في سلوكه في شكل تصبح أفعاله وردود الأفعال غير قابلة للتصديق لانفصالها عن الواقع.
بعض الخبراء المخضرمين ينظر إلى رجال العهد الرئاسي بأنهم نموذج لتلك الحالة، ويعتبرون أن الصفات المذكورة لا تقتصر على بعض المستشارين والمقربين. هناك بين الذين يلتقون رئيس الجمهورية ميشال عون في شكل متواصل، من يصرون على أن خطواته نابعة من شعوره بالكآبة الشديدة لاقتراب نهاية حكمه بعد ثمانية أشهر ونيف، هو الذي سبق أن قال إنه لن يسلّم خلفه البلد مثلما استلمه هو، واعداً نفسه والناس بالإنجازات وبـ»الإصلاح والتغيير»، وبإشعاع ما سيحققه في سائر بقاع الأرض، فإذا بالرجل الذي تحلقت يوماً حوله وحول شعاراته البراقة الوفود الشعبية التي كانت تؤم قصر الشعب في العام 1989 يتعرض للشتائم والاتهامات هو وعائلته وصهره جبران باسيل، في تظاهرات اللبنانيين المنتفضين على الفساد. يرفض التهم التي يكيلها ضده فرقاء سياسيون وجمهور الثورة الشعبية والاجتماعية بأنه كان المتسبب بالانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي باعتباره مسؤولاً عما آلت إليه الحال المأسوية من تردٍ غير مسبوق. لا يقتنع الرئيس عون بأن الحملات عليه، دفعت جزءاً غير قليل من جمهوره السابق إلى أن ينفك عنه، ما أدى إلى تقلص شعبيته التي يعتد بها. استمد قوته من زنود حليفه المدجج بالسلاح الذي فرضه على سائر الفرقاء. وهذا القسم من الجمهور الذي صنع له في السابق «تسونامي» الانتخابات ينضم إما إلى خصومه، ليكون في صف العاملين على إسقاط مرشحي تياره في الانتخابات المقبلة، أو إلى حركات المجتمع المدني، أو إلى كثيرين ممن سيحجمون عن الاقتراع لأن همهم تأمين لقمة العيش بعدما ضربهم الفقر، ولم يعودوا يؤمنون لا بالعونية ولا بغيرها…
يقترب خروج الرئيس عون من القصر فيما خصومه باقون في مواقعهم. وإذا كان بعض فريق الرئاسة يعتبر أنه نجح في إخراج سعد الحريري من الحلبة السياسية انتصاراً له، يعرف الرئيس عون أكثر منهم أنه ليس هو الذي أخرجه منها ولو موقتاً، بل ما زال تياره قادراً على الحركة اعتراضاً على تصفية رموزه، فإن سمير جعجع ينافسه على الأولية بين المسيحيين، ونبيه بري ووليد جنبلاط اللذين قال يوماً إنه سيضعهما في السجن (والحريري أيضاً)، مستمران في لعب دوريهما، الأول سيحتفظ في الانتخابات بكتلة نيابية وازنة تمكنه من مواصلة شراكته في إدارة اللعبة السياسية، والثاني سيحافظ على زعامة راجحة مهما كانت النتائج، بينما حال الزعامة العونية بعد الرئاسة، خاضعة لعقوبات دولية تطال شخص وريث هذه الزعامة النائب جبران باسيل. والهم الرئاسي الراهن تأمين مستقبل الأخير في السباق الرئاسي.
إذا كانت التجارب السابقة والسقطات المتتالية، لم تغيّر شيئاً في أذهان الفريق الرئاسي المتماهي مع الاعتداد بالقوة والأوهام والطموحات والمراهنة على حصد نتائج الدعم الإيراني، فلا يكتئب مثل الجنرال إما لأنه لا يشعر مثله بالخسارة، أو لأنه متمرسٌ بكيفية نقل البارودة وفتح الخطوط من بعدها، ما زال على أوهامه بالقدرة على استرداد المبادرة، من دون أن يتحمل كلفة المعارك العبثية، التي تخوضها الرئاسة، على اللبنانيين.
تتكرر فصول العام 1989 حين كان يطلق رشقاً من القذائف، ثم ينتظر استسلام الآخرين لشروطه، فإذا لم يفعلوا يلي ذلك رشق آخر وهكذا دواليك.
عتاد الجنرال اليوم هو غادة عون. بها يصوب قذيفة على رياض سلامة، فإذا استطاع تأمين الحماية تستهدف قذيفة جديدة اللواء عماد عثمان…وهكذا دواليك… حتى نهاية العهد. لن تتوقف القذائف عن السقوط. الفارق أن لا ملاجئ هذه المرة تحمي من كتبت له النجاة. فالباطون المسلح لا يقي من الجوع.