شعار الدولة المدنية ليس جديداً في قاموس “التيار الوطني الحر”، فمؤسسه العماد ميشال عون، قبل أن يصبح رئيساً، كان خاطب مستقبليه من اللبنانيين يوم عودته من المنفى الباريسي في 7 أيار 2005 في ساحة الشهداء قائلاً لهم: “إذا خاطبتكم بالطائفية فانبذوني”.
لكن المفارقة أن قاموس التيار البرتقالي كما سجل ممارساته يتّسعان لكل أنواع الشعارات المتناقضة. فـ”التيار” صاحب شعار “الدولة المدنية” هو أيضاً رافع شعار “استعادة حقوق المسيحيين” والمطالب باسترداد أجراسهم من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. “التيار” احتفل بعد اتفاق الدوحة ونشر إعلانات “هلق رجع الحق لصحابو” في إشارة إلى استعادة قانون الستين الانتخابي الذي كان يطالب فيه يومذاك البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير، لا بل غالى العونيون بالطائفية عبر تبني مشروع “القانون الأرثوذكسي” الذي يقسم البلد طائفياً ليختار المسيحيون نوابهم ويختار المسلمون نوابهم، في حين بات رئيس “التيار” النائب جبران باسيل يطالب بأن يتم انتخاب رئيس الجمهورية المسيحي من الشعب مباشرة علماً أنه وبحسب أرقام باسيل يشكال المسيحيون ثلث عدد الناخبين.
أيضاً وأيضاً في التعيينات يطالب باسيل بنيل الحصة المسيحية في حين أنه يدّعي أن تياره هو التيار السني الثاني والتيار الشيعي الثالث، ويبرّر ذلك بأن واقع البلد طائفي وهو يتعاطى مع الأمر الواقع!
أما المفارقة الأخطر فهي أن باسيل الذي ينادي زوراً بالعلمانية والمدنية، ونحن في نظام ذات طبيعة مدنية أساساً، يضع مصيره بين يدي الأمين العام لـ”حزب الله” الذي هو رجل دين شيعي يتبع نظام ولاية الفقيه الإيرانية ويترأس ميليشيا مسلحة، ويقول لنصرالله إنه يقبل بما يقبل به… فعن أي مدنية وعلمانية يحدثنا باسيل؟!
ولكن يبدو أن المعجم العوني يتّسع لكل شيء عشية كل انتخابات. هو يتسع للعلمانية كما للمزايدة في ملف حقوق المسيحيين. وهو يتسع لوصف رئيس مجلس النواب بـ”البلطجي” كما يلين أمام التحالف مع الرئيس نبيه بري نفسه وحركة “أمل” في الانتخابات النيابية من دون تردد، مع العلم أن بري كما “حزب الله” يرفعان شعار إلغاء الطائفية السياسية ليرفضا مكانها ضمناً المذهبية السياسية لا العلمانية التي يرفضانها كما يرفضان حتى إقرار الزواج المدني الاختياري. كما أن علمانية جبران باسيل المزوّرة تتيح له التحالف مع “الجماعة الإسلامية” ومع “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية”- الأحباش من دون أن يرفّ له جفن.
إنها قمة التناقضات السياسية والأخلاقية أيضاً. إنه تطبيق مشوّه لنظرية ماكيافيلّي حيث الغايات الشخصية تبيح كل الوسائل.
بالعودة إلى المفاهيم الأساسية، الدولة في لبنان تتبع نظاماً مدنياً، لا عسكرياً ولا دينياً، وكل ما تحتاجه هو الذهاب أكثر نحو اعتماد قوانين علمانية، بدءًا بإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية ولو كان اختياراً بداية. إنها مسيرة تحتاج إلى من يبدأ مسيرة الألف ميل فيها لا إلى من يتاجر بشعاراتها في أزقة المصالح الانتخابية الضيقة في حين يمارس الفحشاء بحق العلمانية والمدنية في أدائه وتحالفاته وخياراته ورهاناته… فقليل من الحياء لا يضرّ أليس كذلك؟