كتب وسام أبو حرفوض وليندا عازار في “الراي الكويتية”:
فيما كان اجتياح أوكرانيا ينطبع في يومه الثامن عسكرياً بـ «حرب مدن» ضارية تصدّرتها خيرسون وخاركيف وماريوبول وأوديسا وكييف، وسياسياً – ديبلوماسياً بجزم فلاديمير بوتين بأن أهداف بلاده من «العملية العسكرية ستتحقق في كل الأحوال»، فإن أهوالَ هذا «البركان» المفتوح على كوابيس ليس أقلّها إعلان الأمم المتحدة «أن التهديد النووي المرتبط بالحرب في أوكرانيا يخيّم على البشرية جمعاء»، بدأتْ تُرْخي بثقلها على العالم الذي وَجَدَ نفسه في «فوهة» تحوّلاتٍ شاملة دفع باتجاهها «القيصر» المغامر، وما زال، سواء بخطواتٍ محبوكة على طريقة لاعب الشطرنج أو بمناوراتِ لاعب البوكر الذي يُتْقِنُ رفْعَ الرهانات وينسحب خصومه أمام الـ «bluff» التي يحترفها على ما وصف أسطورة الشطرنج غاري كاسباروف الرئيس الروسي.
وفي بيروت حَضَرَ هذان البُعدان من الحرب على أوكرانيا، حيث انشغل أبناء «بلاد الأرز» بتداعياتها على أمنهم الغذائي الذي يستنزفه أصلاً الانهيار المالي «المتوحّش» كما على أسعار المحروقات التي سجّلت «وثبةً» بنحو 8 بالمئة، فيما كانت السلطة تتلقى أصداء انخراط لبنان ضمن المنظومة الدولية التي دانت الغزو الروسي في القرار التاريخي الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبيةٍ ساحقة، فتفادى بذلك تسديد ضربة قاضية لسمعته وما بقي من مكانته دولياً، سواء كانت خلفية الـ «نعم» التي أطلقها أقرب إلى «تصويت مع الأمم المتحدة وليس ضدّ روسيا» وفق ما صوّرها البعض أو «تصويت تحت جناح الرغبة الأميركية» كما وصّفها «اتهامياً» البعض الآخَر.
واستقطب موقف لبنان في الأمم المتحدة، والذي جاء منسجماً مع إدانته في اليوم نفسه لبدء الحرب «الاجتياحَ الروسي»، الاهتمام من زاويتين:
الزاوية الأولى: أن اللقاء التمهيدي الذي أعطى الضوء الأخضر لمندوبة لبنان في الأمم المتحدة أمل مدللي للتصويت لمصلحة قرار الإدانة، والذي جمع رئيسا الجمهورية والحكومة ميشال عون ونجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب، لم يترك مجالاً لأي التباس بأن «الموقف الأوّل» الذي أصدره رئيس الديبلوماسية اللبنانية وأثار زوبعة داخلية من الثنائي الشيعي «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري كان يحمل «توقيع» عون وميقاتي أيضاً، وهما مضيا فيه لضروراتٍ عدة، مبدئية وسياسية، تبدأ بتجارب لبنان المريرة مع الاجتياحات الإسرائيلية ولا تنتهي بعدم القدرة على تَحَمُّل أكلاف التحول إلى دولة خارجة عن الشرعية الدولية ومواثيقها، هي التي تترنّح على حافة «الدولة الفاشلة» في إدارة شؤونها وانهيارها المالي وتحتاج إلى «طوق النجاة» الخارجي للإفلات من الارتطام… المميت.
وفي حين شكّل إصرار لبنان الرسمي على الاصطفاف تحت الخيمة الدولية في مقاربة الحدَث الأوكراني، إشارةً ينبغي رصْد تداعياتها على النظرة الخارجية والخليجية – العربية عموماً، إلى تموْضعه الاستراتيجي الذي انجرف بعيداً نحو المحور الإيراني، فإن أوساطاً سياسيةً لاحظتْ أن حتى إيران المنخرطة في مفاوضات حول ملفها النووي أدارت موقفها من الحرب الروسية بما لا يقطع مع موسكو ويُبْقي خيوطاً مع الغرب فاختارت الامتناعَ، في حين أن «حزب الله» لن يضيره سير السلطات اللبنانية «مع الموجة» الدولية بما يخفف الضغط عنها، ولا سيما أن مثل هذا المسار لا يرتّب تداعيات كاسِرة للتوازنات الداخلية التي «يُحْكم السيطرة» على مفاصلها الرئيسية، وأن ترْك «هوامش» للبنان الرسمي للتحرك ضمنها من شأنه أن يريح حتى الحزب الذي باتت كل الطرق تؤدي إليه على طريقة «أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك».
والزاوية الثانية: تفعيل السفراء الغربيين زياراتهم للمسؤولين اللبنانيين للإعراب عن تقديرهم للموقف الذي اتخذته بيروت في الأمم المتحدة والذي سادت مناخاتٌ أنه قد لا يمرّ بهدوء في موسكو وسط تسربياتٍ عن رفْضها استقبال موفد رئيس الجمهورية للشؤون الروسية أمل أبو زيد.
وإذ عقد بو حبيب اجتماعاً مشتركاً مع سفراء فنلندا والدانمارك والسويد والنرويج الذين «شكروا للبنان موقفه تجاه الأزمة الأوكرانية – الروسية، كما تم البحث في إمكان تقديمهم للمساعدة لإعادة اللبنانيين من أوكرانيا»، برزت زيارة السفيرة الفرنسية آن غريو للرئيس عون، حيث كانت جولة أفق تناولت «العلاقات اللبنانية -الفرنسية والتطورات العسكرية بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا وموقف لبنان في الجلسة التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وما صدر عنها من قرارات»، إضافة إلى وضْع لبنان في تفاصيل الاتفاق الذي تم بين وزيري الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان والسعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال لقائهما قبل أيام في باريس، على تمويل مشاريع إنسانية أولية عدة لمساعدة الشعب اللبناني.
كما تطرق لقاء عون – غريو إلى التحضيرات لإجراء الانتخابات النيابية في 15 أيار المقبل وإلى ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان مع إسرائيل، وهو العنوان الذي كان قفز بقوة إلى الأضواء في الأيام الأخيرة بعد ملامح «شد الحبال» حياله بين فريق رئيس الجمهورية و«حزب الله» الذي نفّذ، بهجوم رئيس كتلة نوابه محمد رعد على الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين وضمناً على عون من بوابة التراجع عن الخط 29 كحدود للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان والعودة إلى الخط 23 (الموثق لدى الأمم المتحدة)، ما يشبه «العملية التذكيرية» بأن هذا الملف الذي يُعطي مَن يُمْسك به ورقةً متعددة الاستعمال إقليمياً ودولياً على طاولة «تقاسُم النفوذ» ليس من النوع القابل لهوامش «مناوراتية» لبنانياً.
وفي حين جاء ضرب «حزب الله» بيده على الطاولة في قضية الترسيم، بعد انكفاءٍ نسبي، في توقيتٍ بالغ الحساسية في غمرة الاندفاعة العسكرية الروسية ودخول مفاوضات النووي مرحلة حاسمة، فإن ردّ عون غير المباشر على «التصاريح المؤذية وطنياً» وتذكيره بصلاحياته «بمباشرة التفاوض في المعاهدات والاتفاقات الدولية، ثم يبرمها مع رئيس الحكومة ومن ثم مجلس الوزراء، وأخيرا مجلس النواب» حمل بدوره إشارات كباشٍ يُعتقد أنه سيعود إلى الانضباط تحت سقف التفاهمات العميقة بين الحزب و«التيار الوطني الحر» (حزب عون) الذي سيخوض معه «في خندق واحد» الانتخابات النيابية.
وكان بارزاً في غمرة استعادة ملف الترسيم حضوره البارز لبنانياً، الكشف عن أن السفيرة الأميركية دوروثي شيا سلّمت إلى عون خلال زيارته (الأربعاء) رسالة خطية من هوكشتاين (سلّمت نسخة منها لكل من بري وميقاتي) تضمنت عرضاً خطياً للطرح الذي كان الوسيط الأميركي قدمه شفوياً في ما يتعلق بالترسيم البحري إبان محطته الأخيرة في بيروت، وسط تقارير عن أن الرسالة انطوت على رسم بياني للخط الذي اقترحه هوكشتاين ولحقل قانا. علماً أن المرحلة الفاصلة عن زيارة الوسيط الأميركي وتقديمه العرض الخطي تخللها «لقاء سري» عُقد في ألمانيا بينه وبين رئيس «التيار الوطني» جبران باسيل (صهر رئيس الجمهورية).
وفي موازاة ذلك، بدأ وهج الحرب على أوكرانيا يلفح لبنان من البوابة المعيشية التي صُعقت بارتفاع كبير في سعر المحروقات لاقى صعود برميل النفط وبلغ معه سعر صفيحة البنزين نحو 400 ألف ليرة، وسط إعلان رئيس تجمّع الشركات المستوردة للنفط مارون شماس «أننا في حالة استثنائية منذ بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وما نراه اليوم أمر غير مسبوق»، كاشفاً «أننا عقدنا اجتماعات عدّة مع وزارة الطاقة لتدارك الوضع، لا سيّما أن هناك كميات من النفط تصل إلى لبنان من روسيا وعبر البحر الأسود، ولا إمكان اليوم لتخزين البضاعة لأن الأسعار والأسواق لا تسمح بذلك»، ومرجحا «أن نشهد خلال الشهر المقبل شحاً في البضاعة بسبب صعوبة إيجاد الأسواق البديلة».
وإلى موضوع المحروقات الذي ينعكس على مختلف أوجه حياة اللبنانيين ويدخل في تركيبة تسعير كل السلع (من باب تكلفة النقل واشتراكات المولدات الكهربائية)، لم تقلّ إثارةً للقلق الاضطراباتُ التي بدأت تشهدها الأسواق والسوبرماركت التي سجّلت في الأيام الأخيرة «هجمة» عليها من مستهلكين «مذعورين» من انقطاع سلع (قمح وزيوت وحبوب وسواها) بفعل الحرب على أوكرانيا وإمكان تأثُّر خطوط الإمداد والنقل، ولا سيما على أبواب بداية شهر رمضان المبارك ومع انطلاق الصوم لدى المسيحيين في الطريق إلى عيد الفصح.
وعكس وزير الاقتصاد أمين سلام هذا المناخ بعد لقائه رئيس الحكومة، إذ قال «كان لنا اجتماع يتعلق بالأمن الغذائي، خصوصاً أن الأسبوع الفائت سجلت بعض الاضطرابات في هذا الشأن، مع خوف من شح مادة القمح التي نستعملها لصنع الخبز في لبنان».
وأضاف: «اجتمعنا مع دولة الرئيس لنُطَمْئنه بشأن ثلاث نقاط: بالنسبة لمادة القمح لدينا مخزون يكفي لمدة شهر أو شهر ونصف شهر، ونحن حريصون كل الحرص على توافرها ونتواصل مع عدة دول بما فيها الولايات المتحدة ودول أخرى أبدت الاستعداد لمساعدتنا في حال اضطررنا لاستيراد كميات كبيرة منها. كما وافق مجلس الوزراء الأسبوع الفائت على منح مديرية الحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد موافقة لشراء 50 ألف طن قمح من الخارج لتأمين احتياط لمدة شهر إضافي عن الاحتياط الذي لدينا».
وتابع: «نحن مقبلون على شهر رمضان المبارك حيث سيصار إلى استهلاك أكبر للمواد الغذائية، وسمعنا عن تخوف من حصول نقص في بعض المواد الغذائية، من زيوت وسكر وغيرها، ولقد عقدت بالأمس اجتماعاً موسعاً في الوزارة مع كافة الجهات المعنية من القطاع الخاص وتحديداً المستوردين، وأصحاب السوبرماركت والمطاحن والأفران وتجار المواشي والدواجن والألبان والأجبان، وتوصلنا إلى اتفاق بأنهم سيستمرون بتزويدنا بالكميات الموجودة لديهم، وسنستمر بالتعاون معهم كي لا يحصل انقطاع في الأسواق».
وتوجه إلى المواطنين قائلاً: «أتمنى ألا تحصل حالات هلع، فقد سجل إقبال كبير جداً على السوبرماركت لشراء كميات كبيرة من المواد الاستهلاكية للتخزين. ومن يشتري أكثر من حاجته يأخذ هذه المواد من امام غيره، فرجاء ألا يحدث هلع فالأمور مضبوطة، والمساعدة موجودة والدعم الدولي موجود والعمل من خلال الحكومة ووزارة الاقتصاد قائم».
وأردف: «تصلنا معلومات عن أن بعض التجار بدأ باحتكار مواد الزيت والطحين والسكر، وأنا أقول الآن، وأنتم رأيتم في المرحلة الماضية أننا لجأنا إلى النيابة العامة المالية وتحركنا قضائياً، فرجاء لا تجبرونا على اتخاذ إجراءات أقسى، لأن حرمان الشعب اللبناني من المواد الغذائية وتخزينها في هذه الفترة واعتماد منطق الاستغلال سيواجهان بأشد العقوبات».