كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
لماذا تتكاثر عمليات الخطف في لبنان؟ وهل بات الأمن متردّياً إلى درجة لم يعد معها الخاطفون يهابون القانون والعدالة والملاحقة؟ الحدود الفالتة بين لبنان وسوريا تشجع على مثل هذه العمليات ولكن الحدود الفالتة في الداخل هي الأساس. كلنا معرضون للخطف. ربما صارت هذه هي القاعدة التي تتحكم باللبنانيين والمقيمين في لبنان، خصوصاً أن العصابات باتت عابرة للمناطق والحدود ومختلطة بين لبنانيين وسوريين امتهنوا العنف والإكراه والإبتزاز والفرار من العدالة وتحدي السلطات، وكأنهم سلطة فوق السلطة وفوق القانون. فإلى متى يمكن أن يستمر هذا الفلتان ومتى تتمكن الدولة من ضبط هذا الوضع وتعيد الشعور بالأمن والأمان؟
شهد الشهران الأخيران من العام 2021 ارتفاعاً ملحوظاً في عدد عمليات الخطف والمسلسل يتوالى فصولاً مع بداية العام 2022. العمليات لم تستثنِ أي فئة، فالضحايا متنوعون: منهم كبار السن على غرار المهندس حسان ابو حمدان الذي خُطف في البقاع أواخر العام الماضي. وبينهم الشباب مثل وسيم حمادة، شقيق النائب إيهاب حمادة، الذي خُطف في الهرمل، كما الشاب الذي تعرّض لعملية «كوماندوز» على أوتوستراد هادي نصرالله في وضح النهار وأمام أعين القوى الأمنية. وللنساء أيضاً حصّتهنّ، فقد اختُطفت سيدتان سوريتان وطفلة في منطقة الغبيري نهاية العام الماضي، كما تم خطف سيدة وابنتها دخلا خلسة إلى لبنان الشهر المنصرم. هذا وتمت أكثر من 25 عملية خطف لفتيات سوريات أثناء تهريبهن من سوريا إلى لبنان خلال أيام معدودة أواخر العام الماضي بحسب مصادر أمنية. بدورهم، لم يسلم الأجانب أيضاً من عمليات مشابهة، إذ خُطف مواطن فلسطيني على طريق المطار وتمّ نقله بعدها إلى بعلبك في مطلع العام الحالي، ومواطن سوري من أمام أوتيل «بالميرا» في بعلبك قبل أيام معدودة. الدائرة تتوسع لتشمل المغترب اللبناني ونذكر عباس الخياط الذي خُطف من أمام منزله في قريطم بداية العام أيضاً. ثم لا ننسى أكثر تلك الحالات الـ»لاإنسانية» عندما يقع ضحيتها أطفال في سنّ البراءة كالطفل ريان كنعان الذي خُطف في منطقة حالات من داخل متجر للألبسة في سوق مزدحم على الطريق العام الشهر الماضي. ولقصّة ريان لنا عودة.
الأرقام الرسمية تشير فقط إلى 27 حالة خطف عام 2020 و17 حالة عام 2021. لكن هذا غيض من فيض لأن العديد منها لا يُبلّغ عنه في العادة. فماذا يقول القانون في أحكام وعقوبات جرائم الخطف، وما هو دور القضاء في ظل تفشّي هذه الظاهرة وكيف يشرّح علم النفس تداعيات جريمة الخطف على الضحية؟
إزدياد الحاجة وتآكل الهيبة
بحسب قانون العقوبات اللبناني الصادر في 01/03/1943، تتنوّع أهداف جرائم «الخطف» و»احتجاز الحريات» كما تختلف الإجراءات والعقوبات باختلاف الجرائم. فهناك جرائم خطف بهدف الزواج، أو الاعتداء على العرض أو ارتكاب الفجور، تتراوح عقوبتها بين السجن من ثلاث إلى عشر سنوات مع أشغال شاقة في بعض الأحيان. أما جرائم الخطف الأخرى، ومنها تلك التي تكون دوافعها طائفية أو حزبية أو ثأرا عائلياً، والتي يستخدم فيها الفاعل الضحية رهينة للتهويل بغية ابتزاز المال أو الإكراه على تنفيذ عمل معيّن، كما التي تُرتكب بقوة السلاح أو ينجم عنها موت إنسان، فهي جميعها جرائم تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقة المؤبدة بحسب المادة 569 المعدّلة وفق المرسوم الاشتراعي رقم 112 بتاريخ 16/09/1983.
في هذا السياق، أكّد مرجع قضائي مختص لـ»نداء الوطن» أن نسبة جرائم الخطف في لبنان مقارنة مع الجرائم الأخرى هي ضئيلة نسبياً، كما أن أهل الضحية يترددون في كثير من الأحيان في تقديم أي شكوى أو إبلاغ خوفاً منهم على الشخص المخطوف في ظل التهديدات التي يتلقونها من الجهات الخاطفة. ويضيف: «الإبلاغ ضروري حتى لو تعرّض ذوو المخطوف للتهديد، إذ يمكن للقوى الأمنية أن تعمل بسريّة تامة من دون التسبب بأي أذى للضحية». من ناحية أخرى، عدا عن عمليات الخطف التي تتمّ بقصد الزواج والتي تُحلّ عادة ضمن العائلة أو العشيرة، يشهد البلد وتيرة متصاعدة من عمليات الخطف مقابل فدية مالية. هنا يربط المرجع عينه السبب بعاملين أساسيين: أولهما الوضع الاقتصادي المتردي، إذ «حين تزداد الحاجة تزداد معها الجريمة بشكل عام»: وثانيهما، الذي لا يقل أهمية عن سابقه، الغياب شبه التام للدولة، ما يجعل المجرم لا يهاب العقاب حيث لا رادع لديه ينهيه عن القيام بفعلته.
وعن سؤال حول ظاهرة الخطف التي تبدأ في سوريا وتنتهي في لبنان- أو العكس- يجيب المرجع أنّ تسيّب الحدود وتخاذل بعض القوى الأمنية «عن قصد» خضوعاً لبعض الرغبات السياسية إنما يسهّلان عمليات الخطف عبر الحدود من دون حسيب ولا رقيب. ومن هو الأكثر عرضة اليوم لعمليات الخطف؟ الجميع معرّض لكن الرجل مهدّد أكثر كون الفدية المالية هي السبب الرئيس خلف العملية، كما يمكن استخدام الأطفال أحياناً كأداة لإخضاع الأب أو الأهل لدفع الفدية. أما المرأة، فتنحسر دوافع خطفها بصورة عامة في مسائل الزواج أو العنف أو الاغتصاب.
يتساءل الرأي العام عن الأسباب التي تمنع القوى الأمنية من إلقاء القبض على الخاطفين لحظة التسلّم والتسليم. فما هي الروادع رغم كون المكان والزمان محددين مسبقاً من قبل الجهة الخاطفة؟ يقول المرجع: «في الكثير من الأحيان لا يكون هناك إخبار من قبل الأهل للأسباب المذكورة سابقاً، وفي حال تمّ الإبلاغ، يجب على القوى الأمنية أن تكون حاضرة بشكل متخفّ وبحوزتها الوسائل المتطورة المناسبة للقيام بواجباتها. لكن للأسف، يتمّ التسليم في معظم الأحيان في مناطق يصعب على الدولة الوصول إليها». جزر معزولة، إذا صحّ التعبير، حيث ثمة جهات معلومة-مجهولة تتحكم بكافة مداخل ومخارج مناطق التسلّم والتسليم، عاصمةً وبقاعاً وممرات حدودية. وبالنسبة إلى المفاوضات التي تحصل أحياناً بين بعض الأجهزة الأمنية والجهات الخاطفة، والتي تنتهي غالباً بإفلات المجرم من العقاب، فحدّث ولا حرج. «التفاوض ممنوع في القضاء، فالقضاء لا يحق له أن يساوم ولا أن يفاوض. حين يستلم الإدعاء أو الشكوى يدرس المعطيات ويصدر الحكم براءة كان أم إدانة»، بحسب المرجع الذي ينهي حديثه موجّهاً رسالة إلى جميع اللبنانيين، كون شبح الخطف يهدّدنا جميعاً. فقد شدّد على ضرورة أن يتوجه ذوو المخطوف فور علمهم بالعملية إلى المرجع الأمني أو القضائي المختص بهدف تقديم الإبلاغ، وعدم أخذ الموضوع على عاتقهم- حتى لو تعرّضوا للتهديد- لأنهم بذلك يفسحون في المجال أمام المجرم للتهرّب من المساءلة.
«تخدير عاطفي» واضطراب ما بعد «الخطف»
على المستوى النفسي، يُصنَّف الخطف كإحدى أقسى وأصعب التجارب. فهو يشكّل صدمة للضحية وللمحيطين بها على حدّ سواء. في حديث مع الأخصائية النفسية الدكتورة كارول سعادة، أشارت إلى أنّ لِوقع الصدمة تداعيات نفسية لا تظهر بالضرورة مباشرة بعيد التعرض للخطف، وهي تختلف من شخص إلى آخر بحسب مدّة الاحتجاز والظروف المحيطة بالعملية من مستوى الخوف والعنف اللذين يتعرض لهما. ويمكن أن تتطور الصدمة إلى نوع من «التخدير العاطفي»، فتؤثّر على الدماغ كما على الجهاز العصبي لدرجة تنفصل فيها الضحية عن العالم الخارجي ويصبح من المتعذّر عليها تذكّر مرحلة معيّنة أو أكثر من تلك التجربة. هكذا تعيش الضحية حالة من «اضطراب ما بعد الصدمة – PTSD» يمكن تخطّيها في فترة لا تتجاوز الستة أشهر كما يمكن أن تتفاقم وتتطوّر إلى عوارض أشدّ وأخطر.
ما هي العوارض؟ تجيب سعادة: «حالة القلق والتوتّر على المستويين النفسي والجسدي التي ترافق الضحية كما لو كانت تعيش حادثة الخطف مجدداً، فتتعرّض للتعرّق ولدقات قلب سريعة إضافة إلى مشاهدة الكوابيس أثناء النوم. وقد تزداد الحالة سوءاً لتصل إلى الانعزال التام خوفاً من الخروج من المنزل، وتفادي كل ما يمكن أن يذكّرها بالتجربة أو يعيد تكرارها (رائحة معيّنة، مكان ما، مشهد على التلفاز وغيرها)». العوارض تختلف بالطبع بين الراشد والطفل، ويعود ذلك إلى الاختلاف بينهما في التعبير. فالطفل يعبّر من خلال التوتر والحركة الزائدة وقلّة التركيز كما عدم القدرة على اللعب والشعور بالفرح في الممارسات اليومية التي اعتاد القيام بها. إضافة إلى ذلك، فقد يعاني من اضطرابات في النوم ونمط تناول الطعام والتبوّل اللاإرادي. أما الراشد، فيميل إلى العزلة المترافقة مع عوارض الاكتئاب مثل الحزن الشديد، التعب والإرهاق.
حالة «التخدير العاطفي» تطول في الكثير من الأحيان فتمسي الضحية عاجزة عن التعبير أو حتى الإحساس بشكل صحيح، مثل التمييز بين مشاعر الفرح والحزن، فيتضاءل تفاعلها مع المحيط في وقت تزيد حدّة انفعالاتها من قلق وخوف يعيدان إلى ذهنها الحالة كما لو أنها تتكرر بنفس القوة وفي ظل الهواجس ذاتها. ثم إن حالة الأهل والمقرّبين لا تختلف كثيراً، إذ يسيطر عليهم شعور بالخوف من المحيط الخارجي وتمسّك أكبر بأفراد عائلتهم.
خطفوا الفرحة من عينيه
نعود إلى الطفل ريان. كيف عاش ابن الحادية عشرة وأهله التجربة؟
كان يوم الثاني من شباط 2022 نهاراً عادياً بالنسبة لعائلة ريان قبل أن يتحوّل إلى كابوس لم تتخلص منه بعد مرور قرابة الشهر على الحادثة. تواصلنا مع والدة ريان، السيدة دولّي كنعان، التي تفعل المستحيل كي يتخطى ابنها تداعيات الصدمة الناتجة عن التجربة القاسية التي مرّ بها. ونزولاً عند رغبتها، توجّهنا بالحديث إليها بدلاً من ريان. نسألها عن حالته النفسية، فتخبرنا: «ابني طفل قوي، والضحكة ما بتفارقو. بس من بعد الحادثة ما عم يقدر يركّز ولا يفكّر، وصار يكره يروح عالمدرسة. ما في غير الصلاة بتقوّيه». هكذا تختصر كنعان معاناة ريان. فهو عاش الخوف منذ لحظة اختطافه وتهديده بالسلاح. رعب انتابه حين رأى بأم العين خاطفيه يتناولون مادة ما (مخدّرة؟) في السيارة. اختبر الجوع حين رفض تناول الـ»ساندويش» وشرب الماء خوفاً من أن يكون هؤلاء قد دسّوا له السمّ فيهما. شعر بالبرد القارس حين نُقل إلى البقاع وأمضى الليل في سيارة وسط حرج مغطى بالثلوج من دون غطاء أو كسوة. ليلة قاسية لا يمكن لمعظم البالغين تحمّلها، فكيف لطفل طري العود أن يتحمّل؟ عاد ريان إلى أحضان عائلته في اليوم التالي، لكنه رفض الخروج من المنزل لثلاثة أيام متتالية.
وحتى الساعة، لم يستفق تماماً من كابوس تلك الليلة المشؤومة. رفض الذهاب إلى المدرسة لأسبوع كامل واكتفى بمكالمات هاتفية مختصرة مع رفاقه. «حتى اليوم، بيقولولي رفقاتو أنو بيضلّ حزين بالمدرسة ومنو مبسوط»، تردف الوالدة. لا شك أنّ قساوة المشهد والخوف المستمر من تكراره كفيلان بسرقة ضحكة لم تفارقه يوماً. يأبى أن ينام وأخوه إلا بجانب والدته، فالعتمة تخيفه ولم يعد يشعر بالأمان إلا في حضنها. ما زال يتفادى الخروج من البيت مع والدته، إلا نادراً لشراء أغراض خاصة به أو بأخيه. وكلما مرّوا أمام ذلك المتجر أدارت الأم وجهها لطي صفحة قد لا تُطوى. وتختم قائلة: «كنت مصدومة، متل واحد مسبوع أو مخدّر وبعدني لهلق بحس حالي عم بحلم ومنّي قادرة صدّق الواقع. صرت خاف آخد ولادي معي إلا للضرورة».
ريان يلحّ على أهله لمغادرة البلد، والعائلة تدرس الموضوع جدّياً. هم ليسوا الوحيدين. فبما أن الشيء بالشيء يُذكر، ألسنا جميعاً في الواقع على متن رحلة «مخطوفة» ومجهولة الوجهة؟