كتبت ريتا بولس شهوان في “نداء الوطن”:
هل تجوع هذه الطبقة السياسية، أو تشعر بالعطش؟ فلنقل إنها لا تعاني من الظروف الناتجة عن رفع سعر المحروقات، ولا تحتاج إلى أطباء وخدماتهم، التي أصبحت تناهز نصف راتب موظف بحد أدنى، وتتّكل على المرافقين لتعبئة الوقود، أو حمل جرّة الغاز، فلا تحتكّ بأسعارها. لكن ألا تصومُ؟ أم إن الصوم للذين يتّقون الله فعلياً، وهم الشعب الذي يعاني الأمرين غذائياً على غرار كل مستلزمات الحياة اليومية.
وفي زمن الصوم بالنسبة إلى المسيحيين، الذين بمعظمهم ينقطعون عن أكل اللحم خلاله، وهو انقطاع أساساً “جبري” بسبب أسعار اللحوم، أصبح سعر الخضار يساوي سعر الدواجن ومشتقاتها. تسأل العم في سوق لخضار في جبيل، والذي يعيش على رواتب أبنائه، فيؤمن لهم طعامهم اليومي، ماذا يتسوّق، فيجيب: “آتي إلى هنا من بلدة العدرا وأتبضع على عشرة أيام”. ويقصد بذلك أنه يوفر بجولته هذه فارق السعر بين بضاعة سوق الخضروات والدكاكين التي لا يمكن نقاشها. سميرة، التي يظهر عليها الشيب، على الرغم من أنها مقبلة على الأربعين، تتلقى السؤال بسخرية على الوضع، “كنا نضحك على الأجنبي الذي يشتري بالحبة أصبحنا مثله اليوم، فتقلّصت الكمية. فنحن لم نعد قادرين على شراء اللحم ولا الخضار ولا السمك، حتى الحبوب أصبحت فوق طاقتنا”. ليكون بذلك أكل الصيام المفضل البطاطا اللبنانية، نظراً إلى أنها الأرخص فيسألنا أحد الزبائن: “غليت الخضرا ماذا أفعل ؟” ويجيب من تلقاء نفسه: “أستغني عن الغالي، كالخيار فاستبدله بالبندورة، التي بدأت تذبل”. هكذا يجول بين المحلات ليشتري الأرخص متجنباً فترة الليل “لما يتمقطعوا فيي”.
مقابل نمط “التمقطع” يأتيك وزير الاقتصاد أمين سلام بـ”لا تهلعوا”، فيما المواطن يصدم يومياً بتبدّل أسعار الخضار من منطقة إلى منطقة، بين دكان وآخر وحتى بين سوق خضار وأخرى، ولا من يراقب ولا من يحاسب. استفتت “نداء الوطن” أكثر من 15 محلاً متخصصاً ببيع الخضار بين المتن، جبيل كسروان، والنتيجة؟ لا سعر موحّد إطلاقًا مهما كانت “جنسية” الحبة وكل المحلات تجمع أن اللوبياء هي الأغلى فيتراوح سعرها بالسقف الأعلى 110 آلاف ليرة، ليكون السعر الأرخص 60 ألفاً، هذا في اليوم الواحد الذي قد يتبدّل في يوم آخر نقلاً عن أصحاب المحال. أما كيلو الخيار في المتن فـ 19 ألفاً، جبيل 18 كسروان 15، اما الخسة فأقصى سعرها 18 ألفاً، وأدناه مع عرض باعتبارها ذبلت 11 ألفاً.
فلنفترض عن حسن نية أن وزير الاقتصاد، لا يقصد تضليل المواطن بعبارة اللا”هلع”، هذا الواقع هو من الأخبار الكاذبة؟ فحتى بيار (بائع خضار في جونية) يعلم أن هناك احتكاراً وتلاعباً في سعر البطاطا المصرية الذي يرتفع خلال يوم واحد من دون أي سبب واضح، علماً أن سعر الصرف هو نفسه، معيداً ذلك إلى لعبة المحتكرين الذين يستوردون البضاعة. هكذا وفي حوار لـ “نداء الوطن ” مع التجار في أسواق الخضار تكتشف معاناة المزارعين، الذين تقلّصت محاصيلهم لتعذّر الزرع فيخبر أحد أصحاب المحلات كيف أن قفص الكوسا الواحد سعره 700 ألف ليرة ويباع الكيلو بـ 18 ألفاً، وكان في وقت سابق 10 آلاف، وبالمحصّلة أصبح هناك من يشتري بالحبة.
انخفاض الكميات المستهلكة من الكيلو إلى النصف أو بالحبة يكدّس المواد لدى التجار الذين تصل خسارتهم إلى الملايين حتى لو كانوا يأتون بخضارهم من سوق الجملة، وإذا استمرّ الوضع كذلك على حدّ إجماعهم، باعتبار أن الايجار 5 ملايين ليرة والكهرباء مليونان ويومياً يصرفون بما يعادل الـ 30 مليون ليرة مقابل خضارهم ولا يحصّلون نصف المبلغ، فتجارة الخضار سيتقلّص حجمها كما قطاعات أخرى مع انخفاض عدد المزارعين إلى النصف كما يؤكد مصدر مطلع على أحوال القطاع.
يشرح مارسيل (صاحب محل لبيع الخضروات في كسروان ) أن العواصف هذا العام خفّضت من إنتاج الخيار فبدل الـ100 قفص أنتج النصف فارتفع السعر، رافعاً المسؤولية عن نفسه كمالك محل دالاً على زميله في الحي الذي رفع السعر عن الـ 13 ألفاً للكيلو، وهو السعر الذي يعتمده، ليصل إلى العشرين. مفنداً أصنافاً أخرى في محله مقارناً بين أسعاره وأسعار زملائه ليثبت أنه يشعر مع أبناء الطبقة الفقيرة قائلاً: الملفوف في هذه الفترة رخيص بسبب الكثرة في السوق، لكن إلى أي مدى رخيص على المواطن الذي لم يتبدّل راتبه، رافضاً فكرة رفع السعر، كي لا تبقى الحبة في محله. مارسيل الذي هو مزارع في الوقت نفسه، لا يكتفي ذاتياً بما يملك، لذا يجول صباحاً منذ الساعة 4 على سوق خضار طرابلس، سن الفيل، جبيل إلا أن طرابلس تبقى مركزياً اقوى لأنها مربوطة بالأردن، سوريا وعكار.
على نقيض هذا البائع هناك آخر، وهو وليد مالك محلين في سوق خضار سن الفيل، الذي يستهدف الطبقة الفقيرة والشعبية مباشرة ليرفع الهم عن كاهلها هو متخصص فقط في الحمضيات والموز، وهي زراعة لبنانية تأتيه من الجنوب، لكن أسعار الموز على الرغم من أنها مرتفعة نسبة إلى السنوات المنصرمة لكنها رخيصة بالنسبة إلى باقي الفواكه، أما الحمضيات ولأن بعضها انتهى موسمه وهناك استهلاك لـ”الرجعي”، فيرتفع تلقائياً السعر في هذا الموسم، أما الحامض فيبدأ من الألفين إلى الخمسة آلاف وهذا الاختلاف بسبب النوعية. يحدد مصدر الحمضيات كأنها جواهر وتلك تُنقل من بساتين الجنوب بعضها يضمنها مالك المحل وهناك من يرسل منتوجه، مؤكداً عدم احتكار أيّ عائلة جنوبية محددة المصلحة.
يبرر رئيس “الجمعية التعاونية التنظيمية لبائعي الخضار بالجملة في سن الفيل” ايلي معلوف هذا التلاعب بالأسعار نسبة إلى سعر الصرف وكلفة استيراد السلع التي تضاف على سعر الفاكهة المستوردة، أما أسعار الأصناف البلدية فمتعلقة بظروف الطبيعة إذ عند موجات العواصف هذا العام، بخلاف العام المنصرم، تخف البضائع وترتفع الأسعار ومع تحسّن الطقس تنخفض. يطمئن معلوف المواطنين عبر “نداء الوطن” إلى أن التاجر أو المزارع اللبناني، الذي يملك الخضار والفاكهة، لا يمكنه احتكارها أو لا يمكنه أن يرفض بيعها في اليوم نفسه، وإلا يرميها، والسوق تحتكم إلى مسألة العرض والطلب علماً أن الصعوبات التي يعانيها المزارع من ثمن الأسمدة، النقل، واليد العاملة والأدوية الزراعية، تضاف إلى فاتورة زبائن سوق الخضار، ثائراً على الدولة التي لا تنظر في أحوال المستهلك، والتاجر، والمزارع، سائلاً: هل الدولة فقط في المكاتب؟