كتبت جورج شاهين في “الجمهورية”:
في ظل الجدل المتنامي حول ما خلّفه عزوف الرئيس سعد الحريري عن خوض الانتخابات واعتزال الحياة السياسية، اتجهت الانظار الى من يحصي «الارث المتروك». وان ظهر انّ الرئيس فؤاد السنيورة قد تعهّد المهمة. وما لم يبدل الرئيس تمام سلام من استراتيجيته في اللحظات الاخيرة وفي انتظار موقف الرئيس نجيب ميقاتي، يبدو واضحاً ان البحث عمّن يدير الحالة السنية بات ظهوره على مسافة ايام من عدمه. وعليه ما هي المؤشرات الدالة على هذه المعادلة؟
لم تشهد الاستحقاقات النيابية الماضية منذ الإستقلال احداثاً نادرة كتلك التي تعيشها البلاد في هذه الدورة الانتخابية بعدما دخلت مدارها الضيق. فبعد إعلان الرئيس الراحل صائب سلام عزوفه عن المشاركة في الانتخابات النيابية في دورة العام 1954 بعد عام تقريبا على تكليفه من الرئيس كميل شمعون تشكيل الحكومة «بموجب المرسوم الرقم 1952 تاريخ 30 نيسان 1953 متعهداً بإدارة العملية الانتخابية من «موقع المستقل»، لم تسجل سابقة اوسع واكبر من تلك التي رافقت المقاطعة المسيحية لدورة العام 1992.
وعلى رغم مما شهدته هاتان المحطتان لم تشهد البلاد حالاً من الارتباك والغموض، كتلك التي تعيشها اليوم وخصوصا على الساحة السنية. فالدوافع الى ما نشهده ليست وقفاً على عزوف الحريري عن المشاركة في الانتخابات وابتعاده عن الحياة السياسية ومعه تيار «المستقبل» لأن الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف باللبنانيين أرخَت بثقلها على وقع التحولات الدولية الكبرى وجعلت الإستحقاق معرّضا لمختلف أشكال التهديدات من زوايا سياسية وتقنية ومالية وأخرى مختلفة لا يتسع المقال للإشارة إليها كاملة.
وعلى وقع هذه الترددات التي تركتها الازمات المتناسلة، تتجه الانظار الى قراءة ما يجري على مساحة عدد من الدوائر الانتخابية التي تأثرت بغياب تيار «المستقبل» عن إدارة الماكينات الانتخابية ترشيحاً واقتراعاً وخصوصاً على الساحة السنية التي تعيش مخاضاً غير مسبوق. ومَن يراقب التحولات المرتقبة في هذا الشارع يدرك اهمية وخطورة ما يجري وحجم المخاوف الناجمة من إمكان تولّد تيارات سياسية تتوزع بين الاقلية والاكثرية النيابية بنحوٍ يثير القلق في الحالتين. فالمعادلات التي يسعى البعض الى فرضها مستغلا غياب «المستقبل» عن مجريات العملية الانتخابية لتوليد مشاريع يجري التحضير لها وتَشي بخلل محتمل في موازين القوى لن يكون من السهل مواجهة آثارها لاحقاً.
وعند البحث في ما هو متوقع تظهر الى العلن مجموعة من المخاطر التي لا يمكن تقديرها من الآن، خصوصاً ان عاد البعض الى استذكار ما شهدته الساحة المسيحية من تقلبات عقب المقاطعة التي حصلت عام 92 وانعكاساتها على مدى السنوات المتتالية، ليس على تركيبة المجلس النيابي فحسب، وإنما على مستوى الوطن ايضا، وهو ما ادى الى تعثر تنفيذ الاصلاحات الدستورية التي أقرّت في «الطائف» وكرّسها الدستور الجديد الى درجة استعان البعض بموارد القوة من خارج المؤسسات الدستورية كما من خارج الحدود الى ان بلغت البلاد حال الارتطام الكبير الذي تعيش مظاهره المختلفة منذ التسوية السياسية عام 2016 وما تلاها من استحقاقات رافقت انهيارها بنحو مُتتالٍ الى ان باتت تهدد هوية لبنان ووجهه بعدما احدثت تغيرات غير مألوفة في حياة اللبنانيين ومستوى عيشهم بدرجة باتت تهدد الوطن وكيانه.
ومن دون التوسع في الكثير من جوانب الازمات المتتالية، فإنّ النظر الى عمق ما تعانيه الساحة السنية اليوم لا يمكن تجاهله، ولذلك تتجه الانظار الى المساعي المبذولة من اجل بناء التركيبة السنية الجديدة للفترة الانتقالية التي تسبب بها قرار الحريري وسلسلة الشروط التي فرضها على المنتسبين إلى «المستقبل» والحلفاء والأصدقاء في مواجهة ما يخشى من إمكانية استغلال هذا الواقع الجديد للقضاء على كل ما شكّل مؤشرا الى نهضة سياسية راهَن عليها البعض لإخراج لبنان من أتون المحور الذي سقط فيه، وما يمكن ان تقود اليه مشاريع التحالفات المنتظرة في اكثر من دائرة من اجل ملء الفراغ الذي أحدَثه بتشكيلات سياسية وحزبية جديدة تغيّر المنحى الذي سلكته الحريرية السياسية.
وعند الدخول في التفاصيل يجدر التوقف أمام من يقود مسلسل المواجهة المحتملة، في محاولة لرسم خريطة المواقف المؤثرة على الساحة السنية. ولذلك، لا بد من رصد حراك السنيورة على خلفية مبدأ تحدّث عنه الوزير السابق رشيد درباس عندما وضع تحركات رؤساء الحكومات السابقين تحت شعار: «نحن لسنا بدلاء بل أمناء، ومهتمون بما بعد الانتخابات لا قبلها». وهو ما يعني أنّ التفاهم قائم بين بعض رؤساء الحكومات، وتحديداً ما بين ميقاتي والسنيورة، على التلازم في خطواتهما. ومعهما مجموعة من الوزراء والنواب والسفراء السابقين تزامناً مع ما تشهده دار الفتوى من لقاءات لرصد المزاج الشعبي والحفاظ على متانة ما أرسَته الجهود السابقة من ثوابت وطنية عاشتها هذه الساحة منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والمحطات السياسية التي شهدتها المنطقة والتقلبات التي رافقتها حفاظاً على الحد الادنى من التماسك الذي كان قائماً.
وعليه، علم انّ السنيورة ماض في الاتصالات التي يجريها لمواجهة الازمة، وقد التقى في باريس عددا من الوجوه المتعاطفة مع ضرورة خوض الاستحقاق النيابي بقوة وفاعلية ومن بينهم مسؤولون سابقون في 14 آذار والسفير السابق نواف سلام الذي انتهى على ما يبدو الى سلوك الطريق التي سبقه إليها الرئيس تمام سلام الذي ما زال على موقفه العازف عن خوضها قبل غيره من نادي رؤساء الحكومات، على رغم من الشائعات التي تحدثت عن احتمال تغيير رأيه في الأيام القليلة الماضية.
وعليه، فإنّ أقصى ما هو متوقع من خطوات لن يخرج من نطاق التفاهم بين ميقاتي والسنيورة على الخطوات المشتركة المقبلة مع استمزاج رأي دار الفتوى، وهي عملية جارية عبر فريق يدير الازمة ويخطط لمرحلة فتح صناديق الاقتراع ان جرت الانتخابات في موعدها. مع الإشارة الى انّ هذا الفريق أعدّ خططاً موازية لمرحلة متوقعة يترقبها الجميع ان نجح اهل السلطة في تطيير الانتخابات. فالمواجهة لن تبقى عندها تحت سقف المجلس النيابي ان قادته استقالات نيابية متوقعة الى الشلل الكامل الذي يمكن ان يقود الى شلل حكومي مماثل بعد نهاية ولاية مجلس النواب في 21 أيار المقبل وصولاً الى شغور رئاسي محتمل.
على هذه الصورة ترتسم ملامح المرحلة المقبلة على الساحة السنية، ويبقى الرهان قائماً على قدرة أي قوة سياسية أو دينية لتصحيح الخلل الذي تسبب به اعتكاف الحريري وعزوفه حتى تقدّم الأيام الطالعة نماذج ممّا قد يتحقق.