كتب فريديريك الخراط:
لا ينفك لبنان يتحرر من احتلال، حتى يقع تحت أيدي احتلال آخر. واقع مرير فُرض على الوطن الصغير وشعبه، بحكم الجيوسياسة، وارتباط الداخل بالخارج. هكذا بدأ لبنان مشواره إلى الحرية عشية 14 آذار 2005. تحرُّر لم يكُن بين ليلة وضحاها، إنما كان نتيجة تحديات خطرة اختارها شعب، وجد نفسه مجبراً على تحمل مسؤولية ألقتها على كتفيه أجندات دولية وإقليمية.
لم تبدأ انتفاضة 14 آذار مع نداء المطارنة الموارنة عام 2000، إنما قبلها، عبر مواجهات في محطات كثيرة مع قواعد أحزاب رفضت الرضوخ في زمن “الوصاية” فكان مصيرها السجن والاعتقال والتنكيل والاضطهاد والخطف. فكان نداء المطارنة الموارنة الشهير، بداية خارطة طريق، واجتماعات قرنة شهوان، التي أزعجت النظام السوري، وعمل جاهداً على تفجير الفتن الطائفية بين أبناء الوطن.
نواة مشهد جامع استفز سلطة الترهيب، والنظام الأمني. لم يكن الانتقام صعباً على نظام سفاح، فكشّر عن أنيابه عندما قرر الانقضاض على الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وقاحة أثارت غضب اللبنانيين. دعتهم للتجمع في الساحات، مع سقوط حاجز الخوف في نفوسهم، رافعين العلم اللبناني، بكل أطيافهم واختلافاتهم وانتماءاتهم، مطالبين المحتل بالانسحاب، لا شيء إلا الانسحاب الفوري، فأجبروا المجتمع الدولي على التحرك بهذا الاتجاه. فاستيقظ اللبنانيون في 30 نيسان 2005، على هدير دبابات وآليات نظام بشار الأسد، منسحبة، وعائدة إلى بلادها بعد 30 سنة من الغطرسة. انسحبت، ولكن لمن انسحبت؟
نجحت قوى 14 آذار في انتخابات 2005 النيابية في حصد الأكثرية، فبدأت بتشكيل حكوماتها لإدارة البلاد، إلا أنها سرعان ما اصطدمت بقوة الأمر الواقع، في وقت كانت تحاول الحفاظ على الاستقرار الامني والاقتصادي.
مشهد 14 آذار الجامع أغضب حزب الله، فكان يتحضر للانقضاض على حُكم ثورة الأرز، معتبرا انها لقمة سهلة. لم تكُن قوى 14 آذار متخاذلة ولم تتساهل، ولم تتأخر في مواجهة ممارسات حزب الله، على عكس ما يروّج له البعض، وكانت له بالمرصاد.
وسرعان ما شهدنا سلسلة اغتيالات، من سمير قصير ومي شدياق وجبران تويني وبيار الجميل ووسام الحسن ووسام عيد وصولاً إلى محمد شطح. ضربات قاسية كانت تتلقاها 14 آذار واحدة تلو الأخرى لوقوفها بوجه حزب الله وسلاحه غير الشرعي، إلا أنها لم تتخاذل ولم تساوم ولم تنكفئ عن مواجهة مخططه، فكانت تلملم جراحها وتكمل المواجهة.
رغم التهديدات، والضغوطات على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، أكملت 14 آذار المواجهة، إلى أن قررت الحكومة مصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بحزب الله وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير، بسبب قربه من الحزب، وقيام الحزب بمراقبة المطار عبر كاميرات خاصة. فهل من يتجرّأ اليوم على إقالة أصغر موظف تابع للحزب؟
كان الرد سريعاً في أحداث 7 أيار عند احتلال بيروت من قبل حزب الله وتطويق السراي الحكومي، بعد اعتصام دام سنة ونصف في وسط بيروت ضد حكومة السنيورة.
واجهت ثورة الأرز و14 آذار أكثر مما يعتقد البعض ممارسات حزب الله، حتى استطاع كسرها وتدجينها وتقويضها وتكبيلها، وأخضع الرئيس سعد الحريري ورئيس الحزب الإشتراكي وليد جنبلاط. أزعجت 14 آذار حزب الله كثيراً حتى اضطر إلى اغتيال رموزها وإخضاعها على مدى سنوات من المواجهة السياسية من دون مهادنة.
تمكن حزب الله من تذليل جميع العقبات أمامه حتى أطبق بالكامل على السلطة وتحكم بمفاصلها، بدءًا باتفاق مار مخايل، وكسر هيبة الجيش والدولة، وتقويض 14 آذار.
وسرعان ما عادت الانتفاضات الى الشارع مع انطلاق ثورة 17 تشرين 2019، فكانت انطلاقة واعدة بحجمها لمستقبل لبنان جديد بعد حُكم ذل الشعب اللبناني لمدة سنوات.
أزعجت ثورة 17 تشرين حزب الله لبضعة أيام، ودفعت بأمينه العام حسن نصرالله الى التهديد علناً بفتح الطرقات، ودفعت بأنصار الحزب إلى الاعتداء على الثوار في كل ساحة وصل إليها. لقد أزعجت ثورة 17 تشرين حزب الله حين كانت عابرة للمناطق من كل الطوائف كما بدأت 14 آذار، ولكن اليوم أين هي الثورة؟ سقطت سقوطاً مدوياً عندما انكفأت ورضخت خلال أيام معدودة أمام جبروت الحزب.
14 آذار لها ما لها وعليها ما عليها، إلا أنها أصابت في الكثير من الأماكن ودفعت الكثير، والتعلم من تجربتها واجب، من نجاحاتها كما من أخطائها ! فكانت أول من التف حول نداء المطارنة وبكركي والبطريرك صفير، وأول من نظمت نفسها وجمعت بين قياداتها، وفرزت أمانتها العامة، وأول من قدمت الشهداء وواجهت حزب الله، وكانت مجموعة أحزاب عابرة للطوائف والمناطق، ولم تخوّن بعضها.
وبالتالي لا يمكن التغاضي عن إخفاقات حركات 17 تشرين غير الناضجة اليوم. أين الثوار من دعوة البطريرك بشارة الراعي الى الحياد؟ وأين الوحدة؟
لم تفرز 17 تشرين أي قيادة جامعة لأسباب عدة. وقد أثبتت التجربة أنه لا يمكن لأي ثورة أن تنجح من دون قيادة.
الثورة أصبحت ائتلافات ومجموعات لا تتعدى حدود المنطقة والقضاء الواحد، إن وجد التفاهم أصلاً! فهناك خلافات كثيرة بين الثوار، وأكبر دليل الترشيحات المضادة بينهم في نفس الدوائر! ثورتهم أصبحت “ثُوَيرات”! حتى بات من يردد بأن مجموعات “ثورة تشرين” أصبحت أشبه بـ “كيوسكات” تتاجر بالتغيير!
فلو لم يشارك الكثير ممن يُخَوَّن اليوم في دحر الاحتلالات، كان لا يزال بعض هواة 17 تشرين يقدّمون الطاعة لنظام بشار الأسد.