كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
لا يخفي الديبلوماسيون قلقهم من المفاجآت المحتملة في العالم، تزامناً مع الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي استدعى إعادة تقييم للمعاهدات والمواثيق الأممية. فقد سمحت هذه التجربة لأكثر من دولة بإمرار رسائلها الإقليمية كما تريدها في فترة «الخواء الدولي». وهو ما عبّرت عنه «صواريخ اربيل» الإيرانية رداً على «صواريخ سوريا» الاسرائيلية. وفيما انتظر اللبنانيون الردّ من جنوب لبنان جاء من جنوب إيران. كيف ولماذا؟
سال حبر كثير وسيسيل مزيد منه في قراءة الرسائل التي وجّهتها إيران عبر صواريخها فجر يوم السبت الماضي، إلى مبنى القنصلية الأميركية الجديد في اربيل، معتبرة انّه قاعدة اسرائيلية سرّية من دون ان يشاركها احد هذا التوصيف الذي لا وجود له إلّا في المنطق الإيراني. فوفق اللغة المعتمدة في طهران، لا فصل بين موقع اميركي- اسرائيلي، ولا يمكن ان تُسمّى العملية بغير ما سُمّيت به. وخصوصاً بعدما تبنّاها الحرس الثوري الايراني مباشرة، ومن دون اعتماد أي ذراع او وسيط عراقي او من أي طرف آخر من أولئك المنتشرين في الدول العربية والخليجية التي أسّس فيها الحرس جيوشه الستة.
وإن تمّ الربط بين هذه العملية التي استُخدمت فيها الأراضي الإيرانية مباشرة، وتلك الاسرائيلية التي استهدفت ضواحي دمشق فجر الاثنين في السابع من الجاري، وأدّت الى مقتل اثنين من ضباط الحرس الثوري الكبار، كان من الطبيعي ان تردّ ايران بالمثل، بعد أن توعدت بردٍ قاسٍ يساوي ما خلّفته العملية الاسرائيلية. وإن ساد الاعتقاد لأيام عدة فصلت بين عمليتي دمشق واربيل، بأنّ جنوب لبنان سيكون مسرحاً لها، كانت المفاجأة أن استخدمت الحدود الإيرانية الجنوبية مع كردستان العراق. فقد سبق لإسرائيل بعد اعتراف ايران بخسائرها، ان اعلنت الاستنفار الذي ما زال قائماً حتى اليوم في شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة، في مواجهة استنفار مماثل غير معلن عنه في مواقع الحزب المقابلة في الجنوب اللبناني.
وبالإضافة إلى هذه المعطيات، فقد توقفت مراجع ديبلوماسية في قراءتها للعملية في توقيتها وشكلها ومضمونها، واستنتجت قراءة تتقدّم على أي أخرى. ففي التوقيت ردّت إيران في إربيل على عملية دمشق بعد خمسة ايام عليها بالتحديد كما فعلت من قبل. وفي الشكل سقط خيار الردّ من قِبل «حزب الله» وعبر الجنوب اللبناني، بعدما تولّت القيادة الإيرانية الردّ المباشر. فقد سبق لـ»حزب الله» ان تعهّد بالردّ المناسب على أي عملية عسكرية اسرائيلية تستهدف أي موقع من مواقعه في سوريا، وخصوصاً إن ادّت الى مقتل أو إصابة أي من عناصره، وهو ما قام به برشقات من صواريخ الكاتيوشا، عندما قتل أحد مسؤوليه على أراضيها في نهاية العام الماضي. وإنّ الحزب لم يعلن يوماً انّه يتعاطى بهذه الطريقة المباشرة مع أي عملية أخرى تطاول إيرانيين او سوريين او أي مقاتل من جنسيات مختلفة في سوريا.
وفي المضمون، يبدو انّ القيادة الإيرانية قد فضّلت الردّ المباشر في الأراضي العراقية التي يمكن ان تطاولها من أراضيها، فكان الاختيار بأن تكون القنصلية الاميركية لتدفع الثمن بالإنابة عن اسرائيل من دون ما يؤكّد أي طرف وجود جنود إسرائيليين في الموقع المستهدف. وما يبرّر هذا الاختيار انّ ايران سبق لها أن قامت بمثل هذه العملية عندما وجّهت مجموعة من صواريخها البالستية عقب مقتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في الثالث من كانون الثاني عام 2020 في بغداد. فقصفت يومها قاعدة عين الأسد الاميركية في منطقة الأنبار في العراق بعد 5 ايام على اغتياله وتحديداً في الثامن من الشهر عينه، في عملية عسكرية تبنّتها قيادة الحرس، فضلاً عن قصف قاعدة جوية أميركية أخرى في أربيل ايضاً.
وتأسيساً على هذه المعادلة من جوانبها المختلفة، توقفت المراجع الديبلوماسية أمام بعض المؤشرات من زاوية لبنانية، فرأت فيها ما يؤدي الى نجاة لبنان من تجربة كانت متوقعة في بعض الأوساط السياسية والديبلوماسية ولو بشكل ضيّق جداً، قبل ان تسقط بمجرد الإعلان عن العملية في اتجاه اربيل. فحال الاستنفار المعلنة على الحدود الجنوبية بعد التهديدات الإيرانية بقيت إجراء روتينياً لم يؤد الى أي توتر من الجانبين، وإن أبقته اسرائيل قائماً من طرف واحد سيبقى اعتباره من باب الاحتياط ليس إلاّ.
ففي المعلومات التي تبودلت في الساعات التي تلت العملية مطلع الأسبوع الماضي على نطاق مقفل بين القيادات الأمنية اللبنانية، كان هناك اطمئنان إلى عدم حصول ما يؤدي الى توتير الوضع جنوباً. ومردّ هذا الاطمئنان، انّ «حزب الله» أبلغ إلى من يجب إبلاغه، أنّه لم ولن يخرج عن تعهّده السابق بحصر عمليات الردّ على إسرائيل أي هدف آخر على ما يجري على الساحة السورية الّا بما يصيبه هو وعناصره، قبل الربط الذي أُجري لفترة وجيزة على ناقلات المازوت الايراني الى لبنان، عندما اعتبرها الأمين للحزب السيد حسن نصرالله ارضاً لبنانية، وهو سيتولّى الردّ إن تعرّضت لأي عمل عدائي اسرائيلي.
وفي تفسير أدق للمواقف التي رافقت هذه العملية، قالت المصادر عينها، انّ ما قامت به طهران يحتمل كثيراً من التفسيرات وفي اكثر من اتجاه. وإن كان في إمكان إيران الحفاظ على المعادلة التي حكمت علاقتها بالساحة العراقية منذ اغتيال قاسم سليماني وضمّت اليها الأراضي السورية، وإنّ أي عملية اسرائيلية تستهدفها ستواجه بالردّ عينه. وإلى ان تؤكّد إيران مقتل اسرائيليين في اربيل ستبقى مصرّة على انّها قصفت موقعاً اسرائيلياً للحفاظ على ما تحقق في مفاوضات فيينا تجنّباً لتحميلها مسؤولية إنهاء المفاوضات في شأن ملفها النووي، وهي حريصة على ما تستدعيه من تهدئة مع واشنطن. وإلى هذه المعادلة، قيل وسيُقال انّها عملية استهدفت أطرافاً دوليين آخرين، وهو أمر يحتاج الى تفسير منطقي. وعليه، ما معنى انّها تريد لفت نظر القيادة الروسية بعد موقفها المتشدّد من مفاوضات فيينا والتشديد على قرارها المستقل، بعيداً من النزاع الجاري في أوكرانيا. فطهران تعلم ومعها دول اخرى انّ الموقف الروسي الذي قاد إلى تجميد اجتماعات فيينا لا يستهدف دعم وجهة نظر ايران بمقدار ما شكّل رداً على موقف واشنطن وشركائها من مجموعة الـ (5+1) من العملية العسكرية الجارية في اوكرانيا. ولتؤكّد موسكو انّ في إمكانها توسيع المواجهة لتشمل ساحات عدة، إن استمرت هذه الدول في فرض عقوباتها.
وبمعزل عن كل هذه النظريات، فإنّ ما يهمّ اللبنانيين، انّ العملية أبعدت شبح التوتر عن جنوب لبنان، وأعطت إشارة واضحة الى انّ الحزب كان في إمكانه التبرّع بمثل هذا الردّ، ولكنه فضّل استمرار الاستقرار في الجنوب على أعتاب دخول البلاد مدار الانتخابات النيابية، فلا شيء يؤدي الى تأجيلها سوى عمل أمني، ولعلّ التجارب التي سبقت انتخابات العام 2018 كانت بروفا ناجحة، أُرجئت ابّانها كل العمليات المحتملة في الجنوب الى ما بعد إقفال صناديق الاقتراع في 6 ايار من ذلك العام، ولم يُسجّل ما يؤدي الى المسّ بالهدوء، سوى تلك المناوشات التي تزامنت مع أحداث غزة في فترة أيام تلت تلك الانتخابات.