IMLebanon

خطوط تماسٍ بين روس لبنان وأوكرانه

كتب عماد الدين رائف في “الاخبار”:

أوكران لبنان وروسه هم خرّيجو جامعات البلدين وزوجاتهم وأولادهم، وفيما خلا هؤلاء لا يمكنني تصوّر معنى أن يكون لبنان مضافاً إليه هنا. في الأيام القليلة الماضية، شارك أفراد من هاتين المجموعتين في تحرّكات منفصلة متناقضة نُظّمت على وقع الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية، وهناك دعوات لتحرّكات مقبلة، إلا أن القاسم المشترك بينها يتجسّد بالقلق والتوجّس من الآتي.

التحركات الحالية، وإن كانت تشكل ذروة ما، لكنها ليست طارئة. فقد شهدت السنوات السبع الماضية تشنجات متفاوتة الحجم في العلاقات بين هاتين المجموعتين، وها هي تصل إلى حدّ القطيعة لدى كثيرين في المرحلة الحالية التي تشهد حرباً على الأراضي الأوكرانية، خاصة في المدن المحاصرة اليوم والتي قد تسقط أمام زحف الآلة العسكرية الروسية، واحدة تلو الأخرى. بمعنى أدقّ، هنا، نتحدث عن المدن الأوكرانية التي كان قد درس فيها الخرّيجون حيث تعرفوا إلى زوجاتهم المستقبليات، وعاشوا وحلموا وأحبوا وتخصّصوا وعملوا وبنوا صداقات، ثم عادوا إلى لبنان مع زوجاتهم ليبدؤوا مشوار الحياة. فهذه المدن، بالنسبة إليهم، ليست مجرد دوائر على خريطة عسكرية تمرّ للحظات في نشرة أخبار مسائية، تُظلل بلون من يسيطر عليها.

لا يمكن تحديد حجم كل من المجموعتين إذ يُقدّر عدد الناطقين بالروسية في لبنان بثلاثين ألفاً (“لبنان الروسي”، س.فرابيوف، 2010)، ويُقدر العدد الإجمالي لخرّيجي الاتحاد السوفياتي باثني عشر ألفاً (جمعية الخرّيجين، 2018) يقال إن أكثر من نصفهم تخرّجوا من أوكرانيا، فيما يقدّر عدد العائلات اللبنانية- الأوكرانية بخمسة آلاف (السفارة الأوكرانية، 2017).

قبيل انطلاقة برنامج “حديث روسيا” الأسبوعي عبر أثير إذاعة “صوت الشعب” في حزيران 2011، ثبّتنا مع الزميل الراحل رضوان حمزة هويته، فكانت ثقافية اجتماعية تتجنّب الساسة والسياسة ليضمّ البرنامج “أخباراً وحوارات في قضايا التفاعل الحضاري بين روسيا ولبنان”، وقُدّر له أن يستمرّ على مدى 285 أسبوعاً بلا انقطاع، ناهلًا من معين ثقافات شعوب الاتحاد السوفياتي المختلفة، وعلى رأسها الثقافتان الروسية والأوكرانية. آنذاك بدا الأمر عادياً، فالبرنامج كان صوت “جمعية متخرّجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي في لبنان”، ومن أولوياتها وحدة الخرّيجين، وكانت الجمعية التي ولدت عام 1970 أصيبت بنكسات إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وأتى البرنامج كإحدى ثمار انتعاشها بعد عام 2010. وكان من الطبيعي أن تضمّ احتفالاتها السنوية (بين عامَي 2011 و2015) بيوم المرأة العالمي في الثامن من آذار وبيوم النصر على الفاشية في التاسع من أيار مئات الخرّيجين وزوجاتهم الروسيات والأوكرانيات، يحسبهم الناظر إليهم عائلة واحدة كبيرة متماسكة. ربما كانوا كذلك، فعشرات النشاطات واللقاءات والندوات الأخرى التي نُظّمت تحت سقف الجمعية في بيروت، كانت تبدأ بأحاديث عن ذكريات مشتركة ولا تنتهي إلا بتخطيط لنشاطات مقبلة. فما الذي حدث؟

لا يمكننا إغفال ثلاثة أمور تحكم العلاقات في المرحلة الراهنة، وقد تضيء على ما نمر به اليوم،

الأول، إن الاتحاد السوفياتي اختفى منذ ثلاثين عاماً، وهي حقيقة ينبغي أن تكون بديهية إلا أنها ليست كذلك في أذهان خرّيجيه. وكان الروس يرددون عليهم في كل مناسبة لازمة مفادها أن “روسيا ليست الاتحاد السوفياتي”، حتى إن أحد المسؤولين اضطر إلى تكرارها ثلاث مرات في مداخلة له في مؤتمر “العلاقات الروسية اللبنانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً”، الذي نظّمه “البيت اللبناني” في موسكو في تشرين الأول الماضي. ورأى بعض الخرّيجين، بناءً على مصالحهم وعلاقاتهم، أن ينشئوا جمعيات ونواديَ متنوعة تنوع البلدان التي تخرّجوا منها، فكانت نوادٍ لأوكرانيا وروسيا ولبيلاروس وأذربيجان، حتى إن البعض أنشأ نادياً أو جمعية لجامعة واحدة، بغضّ النظر عن أن الخرّيجين يحملون شهادات أكثر من مئتي جامعة ومعهد في أكثر من خمسين مدينة سوفياتية. وقد أسّست هذه الانشقاقات لوجهات نظر مختلفة تجاه سياسات الدول التي كانت في السابق دولة واحدة.

الأمر الثاني يتعلق بالثقافة العامة وتظهير الصورة، ففيما كانت الدبلوماسية الروسية تعتمد على مبادرات فردية من الخرّيجين وبعض النشاطات التقليدية وتستنزف ما تبقّى من رصيد سوفياتي، حقّقت الدبلوماسية الأوكرانية خلال السنوات السبع الأخيرة قفزة نوعية في لبنان، أفضت إلى ترسيخ خصائص الهوية الأوكرانية وسماتها المميزة عن الشعوب السوفياتية عامة وروسيا خاصة. وذلك عبر إحياء مئات النشاطات الثقافية والأكاديمية والفنية والترفيهية والدينية، والتركيز على اللغة والفولكلور غناء ورقصاً وأزياء، والتعريف بالتاريخ والأدب والسينما والمسرح، وإتاحة الفرصة لمن يرغب بالمشاركة في جميع النشاطات في معظم المناطق اللبنانية.

الثالث، الحرب نفسها التي أطلقت عليها الإدارة الروسية عنوان “العملية الخاصة” وسمّتها الإدارة الأوكرانية بـ”الغزو”. للحرب، أي حرب كانت، وجه قاسٍ دموي والمدنيون هم ضحاياها في المرتبة الأولى. يقيس خرّيجو البلدين وعائلاتهم، بالمجمل، مآسي الحرب الدائرة بمقياس إنساني وليس بمقاييس صفحات التواصل الاجتماعي التي تفيض بالتفاهات والترهات، وإن انزلق بعضهم فيها. يدركون أن احتضان الشعبين الأوكراني والروسي لهم أثناء دراستهم كان واحداً، فلا هم ينساقون وراء الحملة الغربية الناشطة لشيطنة الشعب الروسي وتوجيه العقوبات المختلفة ضده، ولا وراء وصم الشعب الأوكراني في المقابل بـ”النازية الجديدة” وما شابه. يتلخص الرعب الذي حلّ على أفراد هاتين المجموعتين معاً في أن نمط الحياة الذي كان سائداً في العقدين الأخيرين انتهى إلى غير رجعة، وأنهم معنيون بذلك أكثر من غيرهم بطبيعة الحال، وأن الأمان الداخلي قد انهار.