كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
يبدو أن الحرب القضائية المفتوحة من قبل النائبة العامة الاستئنافية القاضية غادة عون بالوكالة والأصالة عن العهد والتيار الوطني الحر ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف اللبنانية تشبه الحروب التي سبق أن أعلنها الجنرال ميشال عون وأدّت إلى تدمير المناطق المسيحية، أولاً مع حرب التحرير التي أعلنها الجنرال ضد الجيش السوري في 14 آذار من عام 1988 ثم أتبعها بحرب الإلغاء ضد القوات اللبنانية في عام 1990 وكانت النتيجة إضعاف الحضور المسيحي في البلد ودخول الجيش السوري إلى القصر الجمهوري ومنطقتي بعبدا والمتن ونفي عون ولاحقاً سجن رئيس القوات سمير جعجع.
وإذا كان كثير من المسيحيين صفّقوا للعماد عون لدى إعلانه الحربين واعتبروا أنه يريد بناء دولة وتحرير البلد وإصلاح الوضع، قبل أن يكتشفوا بعد انتخابه رئيساً أن الافعال لم تطابق الأقوال وأنه انقلب على شعارات التحرير وإنهاء الدويلة، فإن البعض من المسيحيين وغير المسيحيين يصفّق اليوم للإجراءات القضائية ضد حاكم البنك المركزي وضد المصارف معتبرين أنها إصلاحية وستعيد إليهم ودائعهم وتخلّصهم من رموز الفساد. لكن الأمر لن يطول ليكتشفوا أن مثل هذه الإجراءات التي يصفها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بـ «الشعبوية والبوليسية» ستقودهم إلى جهنّم مالية واقتصادية أين منها الأزمة الخانقة الراهنة، لأن ضرب سمعة القطاع المصرفي، وإن كان يتحمّل مسؤولية في مكان ما عن الأزمة المالية، سيتسبّب بأزمة مع البنوك المراسلة في الخارج، ولأن إقفال المصارف سيؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وسيقضي على كل المعاملات المالية والتحويلات التي تأتي من خارج لبنان وخصوصاً من المغتربين اللبنانيين إلى عائلاتهم، كما أنها لن تعيد للمودعين أموالهم لأنها مجرد حرب لتصفية حسابات سياسية في مرحلة انتخابية. والسؤال المطروح في حال إقفال المصارف كيف يتدبّر المودعون أمورهم في عمليات الصرف سواء في المستشفيات والصيدليات ومحطات الوقود والسوبرماركت؟ وكيف يسحَب الموظفون رواتبهم؟
ولم يعد سراً أن رئيس الجمهورية يسعى بكل جهده لتغيير حاكم مصرف لبنان قبل انتهاء ولايته واستبداله بشخصية موالية له لستة أعوام مقبلة، من هنا تُفهَم هذه الهجمة الشرسة التي تطال رياض سلامة ومنعه من السفر والحجز على عقاراته وسياراته ومن ثم توقيف شقيقه رجا بتهمة جاهزة هي تبييض الأموال والإثراء غير المشروع، ومن ثم اعادة إستدعاء حاكم البنك المركزي إلى جلسة استجواب يوم غد الاثنين في ظل مفاوضات تجري بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي.
وعلى الرغم من النفي المتكرر لرئيس الجمهورية وصهره النائب جبران باسيل بأنهما لا يتدخلان في عمل القضاء، فإنهما ينطلقان من أن نجاح الإجراءات القضائية وإخضاع سلامة والمصارف سيحوّلهما إلى بطلين شعبيين، أما إذا لم تنجح هذه الإجراءات فتكون حرفت الأنظار عن الأزمة الحقيقية التي يعيشها العهد وأدت في ما أدت إليه من توتر واضطرابات وإقفال للمصارف إلى تأجيل الانتخابات وإبعاد الكأس المر الذي سيشربه العهد بخسارته حوالي نصف عدد تكتله النيابي.
وفي انتظار جلاء حقيقة الاتهامات وألا تكون إدعاءات تعسفية وخالية من أي مستند أو أساس قانوني كما تبيّن في ملف الفيول المغشوش وغيره بعد فوات الأوان، وألا يدفع البعض حياتهم ثمناً للقهر والكيد والتشهير كما حدث مع المدير العام لمؤسسة مكتف للصيرفة ميشال مكتف الذي هو ناشر صحيفة «نداء الوطن» المعارضة بقوة للعهد وحزب الله، يبدو أن القاضية غادة عون المستندة إلى دعم غير محدود من رئيس الجمهورية وتياره ليست بصدد التجاوب مع أي آلية تنوي الحكومة وضعها للتعاطي القضائي مع المصارف أو أنها بصدد القبول بسحب الملف من يدها، وهي استبقت جلسة مجلس الوزراء بالقول «يعني لازم نعطيهم قوس المحكمة تيقعدو محلنا ويقرروا عنا كيف يطبق القانون». وعلى غرار الجنرال عون الذي تمرّد على قرارات الشرعية عام 1989 دعت القاضية «قضاة لبنان إلى الانتفاض لكرامتهم ولسيادة القانون لحماية الضعيف والعدالة». فيما الرئيس نجيب ميقاتي نفى «حماية القطاع المصرفي أو حاكم مصرف لبنان بل حماية المؤسسات وانتظام العمل وحفظ التوازنات في البلد» وأشار إلى تكليف وزير العدل معالجة مكامن أي خلل، مؤكداً «أن استقالته غير واردة قبل الانتخابات».
تزامناً، يبدو البلد كأنه في سباق بين الانتخابات النيابية والفوضى التي قد تتأتى عن أي استمرار للحرب القضائية على المصارف أو عن أي بروز لتطورات أو تدابير كيدية تسمّم الأجواء وتستثير الغرائز. وتبدو أجندة التيار الوطني الحر مختلفة عن أجندة حزب الله الذي تشير إستطلاعات الرأي إلى أنه ليس مرتاحاً على وضعه فحسب في بيئته الشيعية بل هو يستعد لاختراق الساحة السنية والساحة الدرزية ومد حليفه المسيحي العوني بأوكسجين أصوات ما يعني أن الحزب بات متحمّساً للانتخابات لاثبات شعبيته وللعبور من خلال الاستحقاق الديمقراطي لاستكمال هيمنته على البلد. وهذا يعني أن حزب الله سيتمكن بعد الانتخابات من فرض مشيئته على الحكم والحكومات يساعده في ذلك عزوف القيادات السنية من الصف الأول عن خوض الانتخابات النيابية. وفي حال انتزع حزب الله الأكثرية من جديد فإنه سيعطّل الاستحقاق الرئاسي حتى المجيء برئيس يشبه إلى حد بعيد الرئيس الحالي ميشال عون، ما يعني استمرار حال الانهيار في لبنان ومحاولات عزله عن محيطه العربي وضياع فرصة الانقاذ مع نهاية هذا العهد.
لذلك تتكثّف الجهود لإعادة وصل ما انقطع بين القوى السيادية بعد تفرّقها ويجهد الرئيس فؤاد السنيورة للملمة ما يمكن في الساحة السنية والحؤول دون تمكين حزب الله من اختراق هذه الساحة، كما يجهد لتشجيع التحالف مع الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية في الدوائر المختلطة، من دون أن يكون بصدد تنفيذ انقلاب على الرئيس سعد الحريري، وهو عندما غرّد بعد عزوف الحريري «انا معك رغماً عن قرارك، وانا معك رغماً عنهم» كان يقصد أنه مع الحريري لكنه لا يوافقه على هذا القرار، وانه معه أيضاً رغماً عن الذين يكيدون له.
وكما السنيورة كذلك حلفاء سابقون في قوى 14 آذار يحاولون الرد على حزب الله الذي أعلن أنه يخوض الانتخابات كحرب تموز بالدعوة إلى خوضها كانتفاضة الاستقلال.