يتابع اللبنانيون باهتمام وقلق بالغين الصراع السياسي- القضائي- المالي- الاقتصادي الذي تجري فصوله أمامهم وسط عملية تضليل كبرى يتعرّضون لها نتيجة الضخ الإعلامي المكثف منذ أكثر من 3 أعوام، لا بل ربما تحديدا منذ العام 2016 تاريخ بدء العقوبات المالية الأميركية على “حزب الله”، والتي استُتبعت بمتفجرة بنك لبنان والمهجر في وسط بيروت، من دون ان تتكشف خيوط الجريمة حتى اليوم، ما يكفي للدلالة على مرتكبيها لأنهم “فوق القانون”.
وإذا كانت الأمور استعرت مع انطلاق ثورة 17 تشرين، إلا أن ما يجري مؤخراً على صعيد الهجوم الذي تشنّه النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، باسم العهد عملياً وبتكليف منه، إضافة إلى قرارات بعض القضاة المنفردين ضد القطاع المصرفي بات يُنذر بالويلات التي لا يمكن حصرها، بغض النظر عن أحقية وقانونية هذه القرارات من عدمها.
الثابت أن استقلالية القضاء مقدسة، أو يجب أن تكون، سواء في مواجهة محاولات رئيس الحكومة التدخّل واستدعاء أركان السلطة القضائية إلى مجلس الوزراء، أو في الاتصالات التي يجريها ميقاتي بالقضاء، وسواء في المحاولات المتكررة لرئيس الجمهورية ومستشاره وزير العدل السابق سليم جريصاتي، وسواء في تحويل مكتب القاضية غادة عون أشبه بمقرّ حزبي لمحامي “التيار الوطني الحر”.
وإذا كانت من واجبات القاضي أن يطبّق القانون وينصف المتقاضين، فإن من الحكمة والتبصّر أن تكون أحكامه تصبّ في المصلحة العامة حين تكون الشكوى موضوع النظر تهدّد قطاعات بأكملها. ومن هذه الزاوية يجب النظر إلى التعاطي مع القطاع المصرفي وعلى رأسه مصرف لبنان، لأن هدم هذا القطاع سينعكس سلباً حكماً على جميع المودعين.
ولكن يبقى الأهم اليوم هو السؤال عن توقيت إجراءات القاضية عون عشية الانتخابات النيابية، وقبل أقل من 7 أشهر من انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. لمصلحة من اتخاذ هذه الإجراءات اليوم؟ وهل يجوز هدم القطاع المصارفي خدمة لمصالح سياسية وانتخابية نيابية او رئاسية؟ وهل يجوز إرضاءً لسياسات معينة اتخاذ قرارات شعبوية تضرّ بمصالح جميع المودعين وتهدم القطاع المصرفي؟ هل يجوز لإعطاء مودع واحد وديعته أن يتم حرمان عشرات آلاف اللبنانيين من سحب رواتبهم ومخصصاتهم الشهرية عبر الحجز على أحد المصارف ودفع الآخرين إلى الإضراب والإقفال؟ وهل إذا تمت مصادرة كل ممتلكات المصارف يتمكن القضاء من إعادة أموال المودعين؟
بالعودة إلى الأزمة المالية التي ضربت دول العالم في العام 2008، يجب أن نتذكر جيداً أن الأزمة وقعت بفعل انهيار المصارف نتيجة الاستفاضة في الإقراض، ولكن الدول والحكومات والقضاء في تلك الدول لم يحاسب المصارف ويصادر ممتلكاتها ويطارد رؤساء مجالس إدارتها، بل بادرت الدول إلى دعم المصارف وضخّت الأموال فيها من أجل استنهاض القطاع المصرفي الذي يشكل أساس عمل أي اقتصاد. يكفي أن نتذكر ما حصل في اليونان نتيجة الفساد أيضاً وكيف مُنع المودعون من سحب أموالهم، ولو لم يضخ الاتحاد الأوروبي عشرات مليارات اليورو لكانت اليونان في خبر كان. أما في لبنان فالدولة عوض أن تساند القطاع المصرفي أعلنت تعثرها وتوقفت عن دفع مستحقاتها له، وعملت على وضع المودعين في مواجهة المصارف حتى تبرّئ ذمتها وتغطّي على حجم الفساد المستشري في الوزارات والإدارات العامة، إضافة إلى دور السلاح في عزل لبنان عن محيطه العربي.
فهل المطلوب الاستمرار في القرارات الشعبوية لهدم القطاع والإطاحة بما تبقى من إمكانية لإعادة النهوض، تمهيداً لتصفية ديون الدولة عبر تصفية أموال المودعين والمصارف الموجودة في آن معاً، وذلك لتنفيذ أجندة إنشاء “النظام المصرفي البديل” الذي يخطط له من يقفون وراء هدم كل شيء اليوم، كما يساهم ذلك حين يحصل على قاعدة “الأرض المحروقة” مالياً في إشعال البلد وتحميل القطاع المصرفي وزر كل الفساد والسياسات المالية الخاطئة والصفقات والهدر، فينسى اللبنانيون “مآثر” العهد و”إنجازاته”؟!