Site icon IMLebanon

عنايات الأطفال: لا أطباء ولا تجهيزات

كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:

في كلّ مرة يموت فيها طفل داخل مستشفى، يعود السؤال عن غرف العناية الفائقة المخصّصة للأطفال إلى الواجهة. اليوم، يوجد في 127 مستشفى خاصاً و32 مستشفى حكومياً، 72 سريراً للعناية الفائقة للأطفال تتركّز في غالبيتها في بيروت وجبل لبنان، وجزء كبير منها متوقّف عن العمل بسبب عدم القدرة على تأمين أقلّ الاحتياجات.

قبل ثماني سنوات، افتتحت وزارة الصحة العامة أول قسم متخصّص للعناية بالأطفال في مستشفى طرابلس الحكومي. كانت النية بأن يكون هذا القسم «الفاتح» لأقسام أخرى، إلا أن ذلك لم يحدث، حيث بقي هذا الافتتاح أول الغيث وآخره.

خمس غرفٍ وطبيب واحد هو كل ما يملكه مستشفى طرابلس الحكومي، ومعها منطقة الشمال التي تُعدّ اليوم ما يقرب من 950 ألف نسمة. صحيح أن لهذه المنطقة حصّتها الدائمة من التهميش، إلا أن المشهد هذه المرة ليس شمالياً فقط، فأزمة «الشحّ» في العنايات الفائقة المتخصّصة بالأطفال تعاني منها كل المناطق التي تعيش على الأطراف. وحدها مدينة بيروت وجزء من جبل لبنان يستحوذان على العدد الأكبر من تلك الغرف، على ضآلتها، حيث يوجد ما يقرب من 30 سريراً في تلك البقعة الجغرافية، فيما يتوزع ما تبقّى على كلّ المناطق. وبحسب آخر الإحصاءات التي تعود إلى ما قبل الأزمة الأخيرة، يبلغ عدد أسرّة العناية الفائقة المخصّصة للأطفال حوالى 72 سريراً، يعمل منها 61 سريراً فقط، وتتوزع ـ تقريبياً ـ بين 46 سريراً في المستشفيات الخاصة و26 سريراً في المستشفيات الحكومية. وهو عدد في الأصل لا يتناسب لا مع الحاجة ولا مع أعداد المستشفيات التي تُعدّ 127 مستشفى خاصاً و32 مستشفى حكومياً. في المقابل تصل أعداد أسرّة غرف العناية المتخصّصة بالخدج (الحديثي الولادة) إلى حوالى 700 سرير.

العناية في 11 مستشفى

بهذه الأرقام، يُصنّف القطاع الطبي ضمن خانة «ما تحت الأسوأ»، خصوصاً إذا ما كان الأسوأ يفترض بأن يكون هناك سرير أو سريران في كل مستشفى. هذا المعيار، على سوئه، غير متوفر حالياً في مستشفيات لبنان، حيث تتركز أسرّة العناية في أحد عشر مستشفى فقط، 5 منها مستشفيات جامعية تتوزّع ما بين بيروت وجبل لبنان (الجامعة الأميركية في بيروت وأوتيل ديو والروم ورفيق الحريري الجامعي والكرنتينا الحكومي) واثنان في البقاع (دار الأمل ومستشفى البقاع) واثنان في الجنوب (صيدا الحكومي وحمود الجامعي) وواحد في طرابلس (طرابلس الحكومي).

هذه القسمة غير عادلة طبياً، على ما يقول رئيس دائرة طب الأطفال في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، الدكتور عماد شكر، فعدا كون معظم الأسرّة محصورة في المركز، وهو ما يؤشر إلى سوء التوزيع، إلا أن ثمة جانباً آخر لا يقل أهمية ويتعلق بالجهوزية في المناطق. عملياً، «هناك غرف موجودة في بعض المناطق، ولكن مين قادر يشتغل ويعطي؟»، مؤكداً في الوقت نفسه أن «المستشفيات المهيأة فعلياً للحالات الطارئة والحادّة للأطفال لا تتعدى الأربعة مستشفيات، وهي غالباً موجودة في بيروت». بالنسبة إلى شكر، الأزمة تكمن في الإمكانات «إذ إن حالة الطفل سريعة التطوّر، وقد يتطلب الأمر التدخل خلال دقائق وإلا يحدث ما لا تُحمد عقباه”. خوف شكر من فوات الأوان نابع من واقع يعيشه منذ سنوات طويلة، حيث تواجه «غرف المناطق ضعفاً في التجهيز، كما في الكادر الطبي والتمريضي أكثر بكثير من هنا». يقول ذلك، وهو يُخرج من إحدى الغرف التي يشرف عليها في مستشفى الحريري الجامعي «طفلة من عكار».

ربما، حالف الحظ طفلة عكار في الوصول إلى بيروت والنجاة، لكنّ أطفالاً آخرين لم يحالفهم مثل حظها وماتوا خلال رحلة البحث عن سرير في العناية الفائقة أو على الأقل وصلوا في الوقت غير الصائب. وثمة الكثير من القصص التي تُروى من مناطق كالهرمل التي يبعد عنها أقرب سرير عناية في مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك 60 كيلومتراً إن حالف الحظ المريض، وإن خاب ظنه، استحالت الستون إلى 100 كيلومتر للوصول إلى سرير آخر في منطقة تعلبايا في البقاع الأوسط، وغالباً لا يصيب الظن بسبب ندرة الأسرّة. وإن كانت إحدى الجمعيات “تشغّل” اليوم في أحد مستشفيات زحلة طابقاً للعناية بالأطفال، إلا أنها تعتزم إقفاله بسبب صعوبة توفر المعدات والأدوية والأطقم الطبية.

أما في محافظة الشمال فلا خيار أمام المرضى سوى غرف مستشفى طرابلس الخمس أو بيروت. وهو ما ينسحب أيضاً على الجنوب، حيث تختصر أسرّة غرف العناية بالأطفال في مستشفيات أقرب إلى بيروت منها إلى الجنوب.

أزمة طواقم طبية

برغم تلك «السوداوية»، كما يصف مدير العناية الطبية في وزارة الصحة العامة، الدكتور جوزف حلو الواقع، إلا أن «الأزمة في العنايات الفائقة للأطفال ليست أزمة غرف بقدر ما هي أزمة طواقم طبية وتمريضية متخصّصة في مجال العناية الفائقة بالأطفال ومستلزمات طبية وأدوية». يضيف حلو: «من السهل بناء الجدران، أما الصعب فهو تأمين الأطباء والممرضين، وهم في الأصل أقلية إذ لم يكن يتعدى عددهم الـ15 طبيباً»، متخوّفاً في الوقت نفسه من الهجرة التي يمكن أن تكون الأزمة الأخيرة قد أحدثتها. وفي هذا السياق، يستبعد نقيب الأطباء في بيروت شرف أبو شرف، أن يكون الرقم على حاله «المؤكد أن العدد خفّ مع هجرة عدد لا بأس به منهم، وخصوصاً من يملكون الخبرة الأكبر في هذا المجال». ولذلك، يُجمع عدد من الأطباء، ومنهم أبو شرف، على أن يكون العدد اليوم ما بين 8 أو 10 أطباء. وهو ما يشكّك فيه البعض، مستندين إلى مجموعة من الأمثلة، منها أن «آخر طبيب مختص بالعناية بالأطفال في منطقة البقاع الشرقي هاجر قبل ستة أشهرٍ وحلّ مكانه اليوم في غرفة العناية في المستشفى طبيب مختص بالعناية بالخدج»، على ما يقول المدير العام لمستشفى دار الأمل الجامعي. في المقابل، يوجد طبيب واحد في مستشفى تعنايل في البقاع الأوسط وآخر في مستشفى رياق واثنان في الجنوب، على ما يؤكد حلو.

ولئن كانت مديرية العناية الطبية في وزارة الصحة قد عملت منذ أربع سنوات على تنفيذ مشروع بالتعاون مع الجامعة اليسوعية وجمعية أطباء الأطفال في لبنان لإجراء دورات تدريبية لتخريج أطباء متخصصين بالعناية الفائقة بالأطفال، إلا أن المشروع لم يكمل طريقه بسبب الأزمات. ولا يزال حتى اللحظة الراهنة برنامج الجامعة الأميركية في بيروت لتدريب أطباء متخصّصين يشق طريقه إلى الآن، إلا أن ثمة عائقاً أساسياً اليوم. فبحسب رئيس قسم الأمراض الجرثومية في الجامعة الأميركية، الدكتور غسان دبيبو، فإن البرنامج يُخرّج طبيباً واحداً سنوياً «غالباً ما يفضّل الرحيل على البقاء اليوم».

أما كيف تتم معالجة الخلل؟ بحسب الحلو، فإن الأطباء المتواجدين غالباً ما «يخدمون» في أكثر من مستشفى لتغطية النقص. ولئن كان في ذلك مشقة، إلا أن «مساعدي الأطباء والمتدرّبين يسهمون بعض الشيء في التعويض»، إلا أن ذلك لا يمكن تطبيقه على الممرضين والممرضات، إذ إن النقص هنا أكبر، بحسب حلو، ففي الوقت الذي يحتاج فيه كل طفل إلى ممرض، لا تقدير في مستشفيات لبنان للعدد وتسير الأمور «بالتدبير».

تحدّيات مضاعفة في المناطق

ثمّة عوامل كثيرة تسهم في نقص بالأطباء، منها عامل «الاستقطاب»، على ما يقول طبيب الأطفال في مستشفى الهرمل الحكومي، الدكتور عماد مخ. الأزمة في هذه المنطقة متشعّبة مادياً ومعنوياً. في الشق المادي، يتحدث مخ عن بدلاتٍ لا تشجّع الأطباء على الانخراط في ذلك القطاع، إن كان لناحية بدل المعاينة أو ما يسترده الطبيب من الجهات الضامنة والذي لم يعد يساوي شيئاً اليوم. ويسأل مخ «كيف لي أن أستقطب طبيباً مختصاً إلى الهرمل لقاء بدل معاينة 100 ألف قد يستردها بعد أشهر». ويضيف مخ إلى الحوافز المادية الغائبة، أيضاً تلك المعنوية التي لا ينالها الطبيب أيضاً، لناحية ما يتعرض له من عائلات المرضى ذاكراً على سبيل المثال أن طبيباً اختصاصياً في العناية التحق بأحد مستشفيات منطقة البقاع، ولم يصمد أكثر من عام «تعرّض خلالها للضرب مرتين ورُفعت عليه دعوى».

في الشقّ الآخر من الصعوبات، تواجه العناية الفائقة المخصّصة للأطفال أزمة التجهيزات الطبية والمستلزمات والأدوية التي تضاعف سعرها اليوم، إضافة إلى ظروف ووسائل النقل، حيث يشكو مخ من «عدم وجود سيارات طبية مجهّزة لنقل حالات الأطفال الطارئة التي تستوجب العناية ونقص الفرق المتخصّصة أيضاً فيها، ما يضطرنا أحياناً إلى مرافقة المريض». كل هذه الصعوبات تشكل عوامل تأخير «لا تساعد في الغالب على العلاج الجيد».

لكل هذه الأسباب، يخسر الأطفال في كثير من الأحيان معركتهم مع الحياة، خصوصاً عندما يصل «قطاع» العنايات الفائقة «لياكل من حالو»، يختم مخ. وهذه أزمة ليست حكراً اليوم على مستشفى دون آخر.