كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
سرقات عجيبة غريبة تحصل في الأحياء السكنية وكأن كل شيء بات محللاً للسرقة والأحياء مستباحة للسارقين والمتربصين والمتلصصين يدخلونها تحت جنح الظلام حيناً وفي عز النهار أحياناً ويراقبون أهلها ويحملون ما «يستحلون» منها ويرحلون من دون رقيب. في كل حي قصص وصرخات تعجز عن الوصول إلى آذان القوى الأمنية وخروقات أمنية تهدد بالأسوأ.
بعد السرقات الموصوفة التي طاولت أغطية الصرف الصحي والـ»مسبعات» على الطرقات والأسلاك الكهربائية وبطاريات السيارات والكاتاليزور فيها، ها هي السرقات تتمدّد لتشمل كلّ ما تطاله اليد خارج المباني أو داخلها. سرقات صغيرة لا تتمّ بالكسر والخلع والاعتداء المباشر بل «من برّا لبرّا». كل شيء اليوم بات يحرز للسرقة من قوارير الغاز الفارغة أو الملأى إلى قساطل البلاستيك وحتى «دفاشات» البوابات في مداخل البنايات وغيرها وغيرها. أشياء بسيطة لا تستدعي التقدم بشكوى إلى المخفر ولا تدخل ضمن إحصاءات السرقات لكنّها تسبب للناس حالة من الخوف والقلق والتوجس من سرقات أكبر.
من هم هؤلاء الأشخاص الذين يدخلون الأحياء خلسة ويراقبون، من دون أن يلفتوا الانتباه، ما يمكن سرقته منها؟ هل هم عمال الدليفري كما يقول الكثيرون ومعظمهم من جنسيات غير لبنانية؟ أم هم جامعو الخردة الذين يجولون بـ»البيك أب» داخل الأحياء وهم في غالبيتهم من مناطق معروفة؟ أم مدمنو مخدرات يقومون بالمستحيل لتأمين المال لتلبية إدمانهم؟ أم عصابات سرقة محترفة؟
بشكل دوري يصدر عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بيانات تشير إلى القبض على عصابات تمتهن سرقة لوازم عامة مثل كابلات الكهرباء وأعمدة الإنارة وكان آخرها عصابة تعمل على سرقة بطاريات أعمدة الإنارة التي تعمل على الطاقة الشمسية من مناطق مختلفة من لبنان من بحمدون إلى جونية مروراً ببرمانا ويتم بيعها إلى بؤر خردة في الضاحية الجنوبية. وقبلها توافرت معلومات لدى مفرزة استقصاء الجنوب حول انقطاع المياه بشكل كلّي عن عدد كبير من الأحياء من دون سواها، في مدينة صور ليتبيّن بعدها أن عدّادات المياه الموضوعة عند مداخل الأبنية والبيوت في تلك الأحياء قد تعرضت للسرقة. وتمكّنت القوى الأمنية من توقيف السارق بالجرم المشهود. ومن يتابع بيانات قوى الأمن الداخلي يجد أنه لا يكاد يمرّ يوم إلا وتقع فيه توقيفات لأشخاص وعصابات يقومون بسرقات مختلفة.
بضائع سهلة
لكن الجديد هو انتقال السارقين إلى نوع آخر من السرقات بعد أن سلبت البلاد ولم يعد ما يستأهل السرقة فيها، ولا تكاد تروي أمام أحدهم عن سرقة حصلت في مكان ما حتى ينهال عليك بأخبار سرقات غريبة ما كانت لتخطر ببال السارقين قبل وصول الحال في لبنان إلى ما وصلت إليه. فالحقائب لم تعد تغوي بالنشل ولا اقتحام البيوت وسرقتها بل صار السارقون يبحثون عن البضاعة السهلة التي يمكن بيعها بسهولة ولا يبلغ عنها أحد.
مولّدات كهربائية على الشرفات أو كومبريسورات المكيفات، مضخّات المياه الموصولة إلى الخزانات، بوابات الحدائق الحديدية الصغيرة، إمدادات الدش والإنترت والمولدات (الكابلات، السبليتر، الديجونكترات وحتى الصحون اللاقطة) قوارير الغاز، أغطية الخزانات البلاستيكية، البراميل المعدنية التي تستعمل لجمع النفايات أو تخزين الكاز والمازوت، العدة في الحدائق، المصابيح الكهربائية أمام البنايات أو في الشوارع وغيرها من الأشياء الموضوعة في الخارج أو على السطوح صارت كلّها بضائع مطلوبة.
في منطقة المنصورية المتنية تمّت في وضح النهار سرقة عدة عوائق حديدية صغيرة تستخدم لحجز مواقف أمام أحد المباني وبيّنت إحدى الكاميرات المثبة في الحي السكني أن هناك «بيك أب» بلا لوحات مرّ صباحاً في الحيّ وبعدها اختفت العوائق فتم إبلاغ البلدية التي قال المسؤولون فيها إنه قد تم توقيف هذه الآلية سابقاً وتحذيرها من الدخول إلى البلدة. لكن يبدو أن السارقين النشطين لم يهتموا بالتحذيرات ولا بكونهم يسيرون بلا لوحات، لا بل قام الشخصان المتواجدان بالبيك آب بالاعتداء باللكم على أحد عناصر البلدية وكسر أسنانه حين همّ بإيقافهما وبعدما تدخل عناصر البلدية الآخرون وتم توقيف المعتديين، تبيّن أنهما مراهقان طرابلسيان لم يتجاوزا الخمسة عشر عامًا وقد غطّيا لوحة البيك آب بالوحل حتى لا يتم التعرف إليها وهما يجمعان ويسرقان ما تيسّر من خردة ومواد مختلفة والمفاجأة كانت أن ثمة سيارة مستأجرة يقودها شخص بالغ تتبعهما من بعيد وتراقب عملهما وتعطيهما التعليمات. وتمت إحالة الجميع إلى مخفر برمانا القريب للتحقيق معهم. وشهدت العلالي (وسط البترون) سرقات لـ»كركات عرق». يبدو أن اللص يحب الكأس!
وليس هذا إلا نموذجاً لعشرات العمليات المماثلة التي لم يعد يخشى أصحابها القيام بها في وضح النهار بعد ازدهار تجارة الخردة. في منطقة الدكوانة وصل أحد المواطنين صباحاً أمام محله ليجد أن كومبرسور المكيف المثبت على الأرض أمام المحل قد تم انتزاعه من مكانه وتكسير البلاط من حوله وحين حاول الرجل الإبلاغ عن السرقة في المخفر تم التحقيق معه وطلبت النشرة له وأمضى يومه هناك ولم يخرج بأي نتيجة كما يقول، لذا حين تمت سرقة مجموعة من مصابيح الإضاءة في الشارع نفسه لم يبادر أحد من السكان إلى التبليغ حتى لا يضيع يومهم في المخفر.
ظلام الأحياء يبيح السرقات
وما يزيد الطين بلة ويفاقم من وضع السرقات هو ذاك الظلام الدامس الذي يشهده معظم الأحياء السكنية بعد منتصف الليل. حينها تطفأ المولّدات وتغيب كهرباء الدولة الغائبة أصلاً فتغرق الشوارع بعتمة داكنة لا يكاد المار فيها يلمح إصبعه أمامه وتصبح الأحياء مرتعاً مفتوحاً للسارقين يتنقلون فيها بحرية خاصة مع الأجواء الباردة التي تمنع الناس من الخروج وتفقّد ممتلكاتهم ليلاً.
وإلى هذا يضاف غياب شبه كلي لدوريات البلديات بسبب غلاء المحروقات ونقص الأموال الفاضح في صناديق البلديات ما يترك الأحياء عرضة لتعدّيات مختلفة تعيد إلى البال قصة الأمن الذاتي. بعض البلديات استسلم كلياً وامتنع عن تسيير الدوريات وتأمين الحراسة الليلية فيما بلديات أخرى لا تزال تقوم بالجهود وبمبادرات فاعلة للحفاظ على الأمن في نطاقها. بلدية الحدث في ساحل المتن الجنوبي منعت منعاً باتاً دخول جامعي الخردة إلى شوارعها وتجوالهم فيها وعمدت إلى مصادرة أكثر من حمولة كما منعت أي سيارة عادية من تحميل الحديد دون الحصول على إذن من البلدية وفي حال رؤية أي شخص، بالغاً كان أو طفلاً، يحمل كيساً أو يحاول جمع مواد من النفايات أو الطرقات تتم مراقبته ومنعه من ذلك. تسيير الدوريات نهاراً وليلاً وتأمين الحراسة على مدى 24 ساعة من قبل دوريات الشرطة البلدية خفف من منسوب السرقات في مدينة الحدث بشكل كبير وإن كان الأمر مرهقاً مادياً للبلدية بسبب ارتفاع سعر المحروقات. وحين نسأل مسؤول الشرطة فيها عن العتمة في الليل وتداعياتها على الوضع الأمني يقول «هذا الأمر خارج عن قدرتنا ولا نستطيع علاجه لقد أجبرنا المولدات على التقيّد بالتسعيرة وصادرنا مولداً لم يلتزم لكننا لا نستطيع إجبار أصحاب المولدات على تأمين الكهرباء ليلاً لكن تسيير الدوريات وتشديد الحراسة يعوّضان بعض الشيء عن غياب الإضاءة ويردعان المعتدين».
في جعيتا يؤكد مفوض الشرطة البلدية أنهم يقومون بإقفال مداخل البلدة ليلاً عبر نقاط حراسة محددة لذا فإن السرقات بمعظمها تحصل نهاراً والغريب في أمرها أن السارقين يتصرفون بكل ثقة يدخلون على دراجات نارية صغيرة إلى الورش أو الأحياء ويفكون بسرعة الأغراض التي ينوون سرقتها دون أن يتنبّه إليهم أحد ويغادرون. وقد تمّت سرقة معدات مختلفة من الورش المتروكة في المنطقة كما تمت سرقة أجهزة لتوزيع الإنترنت غالية الثمن جداً من على سطح إحدى البنايات وأشياء مختلفة. وإثر ذلك قامت البلدية بتشديد الحراسة ومراقبة التحركات الغريبة داخل الأحياء نهاراً واستطاعت ضبط الأمن بنسبة عالية لكن الأمر أصعب على الطريق العام المفتوح أمام الجميع.
وتأكيداً على الثقة التي يتمتع بها السارقون رصدت إحدى كاميرات المراقبة في بيت مري لصوص البيك آب وهم يفكون خزان ماء بلاستيكي كبير ويحملونه كما لو كان ملكاً لهم ومعه بضعة أقفاص بلاستيكية ويغادرون المنطقة دون أن يتعرض لهم أي إنسان.
ويبقى السؤال كم ساهم تقنين الدوريات ورواتب موظفي البلديات وتقاعس بعض رؤسائها عن تأدية واجبهم في ترك الساحة خالية للسارقين؟ وكم ساهم تقنين الكهرباء والمولدات في إغراق الأحياء بتفلت أمني مخيف؟
أحياء مخروقة
لا تتوقف الخروقات الأمنية للأحياء عند عمليات السرقة بل الأدهى أن هذه الأحياء صارت مستباحة لمن هبّ ودبّ من الأشخاص. تروي سيدة من منطقة النقاش أنها تلقت منذ فترة اتصالاً هاتفياً باسمها يسألها فيه صاحبه عن سيارة ابنتها المتوقفة أمام منزلها وإذا ما كانت للبيع وحين أجابته بأنها ليست للبيع بادرها بالقول بلهجة عرفت مصدرها أنه يعرف أن السيارة متوقفة منذ مدة طويلة وأنه من الأفضل لها بيعها إن كانت لا تستعملها! خافت المرأة وصعقت وتأكدت أن هناك من يراقب الحي الهادئ البعيد بدقة حتى ولو كانت حجته بيع وشراء السيارات ويستطيع الوصول إلى أرقام هواتف أصحاب السيارات.
ويروي شخص آخر أنه يومياً حين ينزل من بيته لأخذ سيارته بغية التوجه إلى عمله يجد على مسكة بابها بطاقة تحمل اسم معرض سيارات ومكتوب عليها: «إن كانت سيارتك للبيع اتصل بنا» ويؤكد الرجل أنه ما من مرة واحدة استطاع هو أو أي من جيرانه رؤية الأشخاص الذين يضعون هذه البطاقات التي يتغير فيها اسم وعنوان المعرض كل مرة ويتساءل هل هم زوار الفجر ولماذا يأتون ليلاً تحت جنح الظلام فقط دون أن يراهم أحد وما الداعي لتجوالهم في أحياء سكنية آمنة فيما هم غرباء عنها؟ ويؤكد مسؤول الشرطة في بلدية جعيتا أنهم ما من مرة استطاعوا اللحاق بهؤلاء رغم بعض تبليغات الأهالي لأنهم يقومون بتوزيع البطاقات ويغادرون على جناح السرعة.