كتبت ندى الملاح في “الجمهورية”:
بات حديث العملات المشفّرة متداولًا وشعبيًّا في لبنان، بعد أن اقتصر لفترات طويلة على بعض الباحثين عن الاستقلاليّة الماليّة بعيدًا من مركزيّة المصارف التقليديّة، أو من كانوا يُعدّون من المجانين في المغامرة بالاستثمار بالمجهول. فسوق العملات الرقميّة كانت تُحيطه الشبُهات، وكان الجميع يراهن في حينها على انفجار فقاعته في أيّ وقت، نظرًا لتشابه ظهوره بكثير من البدع الماليّة التي ما كانت إلّا محاولة اختلاس واحتيال.
وما أشبه ظروف نشأة العملة المشفّرة الأشهر «البيتكوين» بالظروف التي يعيشها لبنان اليوم بوجهٍ خاصّ. إذ نشأت «البيتكوين» من مشروع ليبراليّ بدأ كردّ فعل للدور الذي لعبته المصارف المركزيّة بعد الأزمة الاقتصاديّة العالميّة في 2008. فالمواطن اللبنانيّ الذي يختبر أحد أسوأ الأزمات الاقتصاديّة في العصر الحديث، فَقَد هو بدوره ثقته بالمصارف التقليديّة، واحتمال الأكبر أنّه خسر مدّخراته مع هذه الثقة. لذلك، وجد نفسه أمام حقيقة معكوسة، فمن أعتُبر مجنونًا يومًا، ظهر اليوم الأشدّ دهاءً، إذ مع ارتفاع قيمة العملة المشفّرة، أمسى من أصحاب الملايين، في حين أصبح كثيرون من أصحاب الملايين قريبين من الجنون.
بالطبع، يبقى موضوع تبنّي العملات المشفّرة متأرجحًا بحسب جرأة وتحليل المجموعات، وكذلك عوَزها وحاجتها إلى استبدال النُظم الماليّة التقليديّة. مثالًا على ذلك، أصبحت نيجيريا في الفترة الحاليّة واحدة من الأسواق الرائدة في عالم العملات المشفّرة. ويشهد اقتصادها تطوّرًا في مناخاتٍ صعبة، إذ واجه الشعب هناك أزمة فقدان الثقة في أشكال الاستثمار التقليديّة. وكأنّ التاريخ يُعيد نفسه، إذ أنّ المصرف المركزيّ النيجيريّ طلب من البنوك إغلاق الحسابات التي تستخدم العملات المشفّرة، بحجّة أنّ هذه المعاملات الماليّة غير قانونيّة. وجميعنا يتذكّر كيف حظَّر مصرف لبنان شراء العملات المشفّرة من خلال بطاقات الدفع المحلّيّة على منصّات التداول في عام 2013. في ذلك الوقت، أكّد على طبيعة العملات الرقميّة التي تعتمد على المضاربة، وحقيقة أنّها غير مضمونة من قِبل أيّ مصرف مركزيّ، الأمر الذي يجعلها شديدة التقلّب. لكنّ الأرقام في نيجيريا تعكس واقعاً مخالفاً، فهو يُعدّ أحد أكبر أسواق العملات الافتراضيّة، بواقع تعامل يفوق الـ400 مليون دولار أميركيّ في العام الماضي.
كذلك، نرى أنّ الأرجنتين من البلدان التي تُعاني من معدّلات التضخّم العالية، على غرار لبنان، فتتصدّر دول أميركا اللاتينيّة بمعدّل تبنٍّ للعملات المشفّرة يبلغ 21%، وهذا الأمر ينسحب على البلدان المجاورة لها، فالبرازيل وكولومبيا وتشيلي والبيرو تعرف معدّلات تبنيّ تتراوح بين 12-15%، وأصبحت أميركا اللاتينيّة منطقة نشطة في التعامل مع العملات المشفّرة. من سخرية القدر، أنّ تشابهنا الاقتصاديّ مع الدول التي تُعاني من مشاكل اقتصاديّة، خصوصاً تلك التي تتعامل بالعملات المشفّرة قد ينفّرنا من التماهي مع تجربتها. فلبنان هو سويسرا الشرق، لكنّ سويسرا الأصليّة هي بدورها تتمتّع بأعلى معدّلات تبنّي في أوروبا بواقع 13%.
ينضمّ بعض اللبنانيّين إلى أكثر من 100 مليون شخص يمتلك عملات مشفّرة في جميع أنحاء العالم، وهذا الرقم تضاعف ثلاث مرّات خلال سنتين. وهذه النسب سترتفع حتمًا لأسباب عديدة، لا لأنّ اللبنانيّين سيتهافتون على هذه العملات، بل لأنّ مأساتهم لا تشملهم وحدهم. فدول مثل أوكرانيا، وروسيّا، وفنزويلا تتصدّر البلدان التي يستخدم سكّانها هذه العملات الإلكترونيّة. إذ ثمّة عنصر واحد يوحّد هذه الدول: المعاناة من الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة في السنوات المنصرمة، وهبوط قيمة عملاتها المحلّيّة إلى أدنى مستويات في تاريخها.
وحمى الله لبنان من أيّ حرب، لكنّ العالم بات قرية صغيرة، وأزمة الحرب الروسيّة- الأوكرانيّة ظهرت آثارها لا في لبنان وحسب، بل في العالم أجمع. وقد تبيّن لكثيرين أنّ الحروب هي اقتصاديّة بالمقام الأوّل، والسلاح الأقوى هو العقوبات الماليّة. فشهدت هذه العملات طلبًا متزايدًا عليها، عبر العمليّات في «سلسلة الكتل» أو ما يُسمّى بـ»البلوكتشين»، بعد تفجير الأزمة الروسيّة- الأوكرانيّة، ومحاولة القطب الروسيّ الالتفاف على ما تمّ فرضه من حظر على تبادل بالعملات الأجنبيّة التقليديّة.
كما لا يُخفى على أحد أنّ سوق العملات المشفّرة يعتمد على «التريند» وهذا الأمر قد يخطف قلب اللبنانيّ قبل عقله! ففي أوائل شباط 2021، أعلن رئيس شركة «تيسلا»، إيلون ماسك، أنّ شركته استثمرت 1,5 مليار دولار أميركيّ في عملة «البيتكوين». وإثر هذا الخبر «ولعت الدني»، وعرفت العملة الأكثر شهرة موجة اقبال جامحة، وارتفعت قيمتها من 39 ألف دولار، إلى 57 ألفاً في غضون أيّام قليلة، وكان رقمًا قياسيًّا منذ أن وُضعت هذه العملة في التداول، قبل أن يتراجع إلى حوالى 47 ألفًا بعد أيّام قليلة.
وبحسب النظريات التي تدرس نسب الإقبال على المنتجات المبتكرة حديثًا، فإنّ «البيتكوين» لم يخرج عن المنحى السائد الذي يعرف في بدايته ارتفاعًا جنونيًّا يصل به إلى القمّة، ليعود فيتباطأ مع تبنّي الغالبيّة المتأخّرة هذه التكنولوجيا الجديدة. كما تختلف أسباب ذلك باختلاف المناطق وطبيعة النُظم الاقتصاديّة ففي البلدان الناشئة مثل لبنان، يُقبل الناس بوجه أساسيّ على العملات المشفّرة لحماية أنفسهم من انخفاض قيمة العملات الوطنيّة. أمّا في الغرب، يزداد الإقبال عليها، بعدما أظهر كثير من المستثمرين الكبار اهتمامهم ودعمهم الملموس. ففي تمّوز 2020، بلغ حجم استثمارهم حوالى 1,4 مليار دولار أميركيّ، وبعد عام أصبح 46,3 مليار، وقد يحثّ هذا الأمر بعض المتموّلين اللبنانيّين إلى «تقليد» هؤلاء المستثمرين، والانضمام إلى كثيرين من أصحاب رؤوس الأموال، بعد أن زادت استثمارات التشفير بنسبة 880% في جميع أنحاء العالم مقارنة بالعام الماضي.
هكذا نرى أنّ لبنان ليس استثناءً من جنون الأصول المشفرة. لا بل أنّه يجمع في فرادته جميع المحفّزات والمسبّبات التي دفعت غيره من البلدان إلى تبنّي التعامل بالعملات المشفّرة، ولو بنسب متفاوتة. ففي خضمّ الأزمة الماليّة، قد يستخدم اللبنانيون العملات المشفّرة لتجاوز القيود المصرفيّة، ولكن يغلب على دوافعهم محاولة الحفاظ على قيمة مدّخراتهم، وهي مغامرة لا تخلو من المخاطر كما سبق وذكرنا. فيميل العديد من اللبنانيّين اليوم إلى استخدام العملات الافتراضيّة في التعامل، واستثمار ما تبقّى لديهم من مدّخرات، بعد «الخراب» الماليّ الذي وقع على بلدهم، والذي أدّى إلى خسارة العملة المحليّة لأكثر من 90% من قيمتها مقابل الدولار الأميركيّ، وفرض البنوك قيوداً على حركة رؤوس الأموال.
بالإضافة إلى ذلك، ونظراً لعدم قبول بطاقات الدفع الإئتمانيّة اللبنانيّة على منصّات التداول المتخصّصة بالعملات المشفرة، فإنّ عمليّات التبادل في الداخل اللبنانيّ تتمّ بالفعل من خلال مجموعات على شبكات التواصل الاجتماعيّ التي تربط المشترين والبائعين. أو من قرّر، من دون إذن، فتح مكنة صرّاف آلي لاستبدال العملات التقليديّة بتلك المشفّرة منها، وعلى الرغم من أنّ السوق لا يزال صغيرًا عمومًا، إلّا أنّ الاقبال يشهد تصاعدًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة. وعلى عكس المخطّطات الماليّة «الجهنّميّة» للإدارات الحكوميّة، والتعاميم غير المنطقيّة التي يبدّد بواسطتها مصرف لبنان أموال الشعب، توفّر عملة «البيتكوين» وغيرها وسيلة للأفراد من أجل استعادة سيطرتهم على قرارهم في كيفيّة استثمار أصولهم. فثمّة ميزتان للعملات المشفّرة تؤثّر في لبنان بوجهٍ خاصّ: الأولى، قدرتها على تجاوز القيود غير الرسميّة المفروضة على تداول رؤوس الأموال. وقد جذبت المغتربين بوجهٍ خاصّ، لتحويل الأموال إلى عائلاتهم في لبنان من دون المرور عبر المصارف. والثانية، عدم طلب أي تبرير للحوالات الماليّة، فالتراخي في إجراءات مكافحة غسيل الأموال، لا تُعدّ على هذا النحو في بلد تغلب عليه مصالح أُخرى غير الصالح العامّ. بالطبع، من دون أن ننسى أنّ تحويل العملات الافتراضيّة أقل تكلفةً، خصوصًا في حالة المبالغ الكبيرة، لأنّ الرسوم لا ترتبط بقيمة المبلغ، بل بحسب ازدحام الشبكة، أو الوقت المستغرق لاستلام الدفعة.
كما برزت ظاهرة جديدة، إثر تلاشي الثقة بالمصارف التقليديّة، والرسوم المفروضة على التحويلات وحسابات «الدولار الطازج». إذ ثمّة شريحة من الموظّفين اللبنانيّين لدى شركات عالميّة تفضّل الحصول على رواتبها بالعملة المشفّرة، ليتمّ بيعها بالدولار الأميركيّ في لبنان لتغطية النفقات اليوميّة، وتخطّي سقوف السحب بالعملات الصعبة. وبما أنّ من الممكن أيضًا الدفع مباشرة بالأصول المشفرة، فإنّ المزيد والمزيد من الشركات الدوليّة، مثل مواقع حجوزات الفنادق، وكذلك بعض الشركات اللبنانيّة، تقبل الآن بالعملات المشفّرة كوسيلة للدفع، على الرغم من أنّ هذا النوع من التعامل ما زال محدود الانتشار. إذ يتضمّن شراء وبيع «البيتكوين» في لبنان تبادل الدولارات النقديّة لتحويل «البيتكوين»، عبر مشاركة رمز يتمّ إنشاؤه بواسطة المحفظة الإلكترونيّة للمشتري، وغالبًا من خلال وسيط، الذي يأخذ عمولة تتراوح بين 3-5%.
كما سبق وذكرنا، تُعتبر العملات المشفّرة اليوم جذّابة جدًّا في بلدان مثل فنزويلا والأرجنتين، اللتين تواجهان تضخّمًا هائلًا، وانخفاضًا في قيمة عملاتها المحلّيّة، وهذا ما قد يرسم مستقبل الواقع اللبنانيّ الماليّ. إذ لدى العملات المشفّرة «الترياق» ضدّ التضخّم، لأنّ كمّياتها محدودة، بينما الطلب عليها في نموّ مستمرّ، ولربّما مع الوقت المكافئ الرقميّ للذهب. من المؤكّد أنّ قيمة العملات الافتراضيّة متقلّبة للغاية على المدى القصير، ولكنّها متصاعدة على المدى المتوسّط والطويل، وهذا ما أثبتته منذ ظهورها. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ التقلّب الشديد الذي عرفه «البيتكوين»، يدفع العديد من الخبراء إلى توخّي الحذر.
لكي يكون التعامل بالعملات المشفّرة مربحًا للمواطن اللبنانيّ، عليه أن يزيد من معرفته بمفاهيم عالم العملات المشفّرة، فكلّ شيء يعتمد على طريقة التعدين، ونوع العملة المشفرة، وخاصّةً الطلب عليها. كما أنّ التشفير لا يحمي العميل من تصرّفاته غير الحكيمة على مستوى الأمن الرقميّ. لأنّه كما يمكن أن تُسرق محفظتك، أو أموالك من المصارف، من الممكن أن تُسرق محفظتك وأموالك الافتراضيّة. وإذا لم يتمّ تخزين هذه البيانات في محفظة آمنة، ولم يكن جهاز الكمبيوتر الخاصّ بك الذي يصل إلى هذه البيانات آمنًا، فأنت عرضة لسرقة أموالك المشفّرة، ويعود عليك مهمّة الحفاظ عليها بالمقام الأوّل.
يبقى اللبنانيّ يحلم بملاذٍ ماليّ آمن. لكن، كما اعتاد أنّ ثمّة كابوساً بعد كلّ حلمٍ ورديّ جميل، قد تتكثّف القيود في السنوات المقبلة لدى الحكومة اللبنانيّة للتضييق على العمليّات اللامركزيّة، بحجّة عدم وجود إطار قانونيّ وعدم الكشف عن الهوّية التي تمنحها الأصول المشفرة لأصحابها. فيستيقظ مارد مكافحة الفساد من ثُباته فجأة، ويبدأ بفرض الضرائب على مكاسب مدّخرات الأصول الرقميّة، أو قد تكون الخطوة الأولى في محاولة بعضهم إعادة السيطرة على حركة الأصول الماليّة في لبنان. فمن يُضيّق على عمليّات الدفع بالبطاقات المصرفيّة التقليديّة في السوبر ماركت وغيرها، لن يتوانى على التضييق على العمليّات الماليّة الافتراضيّة، لكن كيف؟