كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
تجاهات الأرض أربعة: يمين وشمال وشرق وغرب، وعناصر الطبيعة أربعة: أرض ومياه وهواء ونار، والفصول أيضا أربعة: ربيع وخريف وشتاء وصيف، ويوم 4 من كل شهر، من عشرين شهراً، يعود مفعماً بكثير من الوجع والخيبة والمرارة والقهر. أهالي ضحايا تفجير بيروت، تفجير 4 آب، رافقناهم، في مسيرتهم الشهرية، فمنحونا قوّة وأملاً بأن الحقّ «ما بيموت» والعدالة وإن تأخرت آتية آتية آتية. ورددنا معهم، في الشهر العشرين: لن نسكت، لن ننسى، لن نساوم ولن نتنازل.
غريب هو أمر بيروت. يُحار المرء في حالها. يُحبها ويكرهها. فيها كثير من الحياة وفيها موت كثير. فيها قوّة وفيها ضعف. هي مدينة كانت لا تنام من الفرح وأصبحت لا تنام إلا مع الحزن. وفي كلِ مرة نمشي فيها نلتقط خيوطاً كما العنكبوت، تتشابك، تتناقض، وترخي بنفسِها على المدينة التي قيل فيها ذات يوم: الحبّ في بيروت مثل الله في كلِ مكان… فهل نُصدّق كلام نزار قباني هذا ويعود رحيق الحبّ، مع راحة البال، مع الحياة إلى بيروت؟
أهالي ضحايا بيروت إلتقوا وسط المدينة. أتى كثيرون منهم من مناطق بعيدة، من مشمش، من قرطبا، من الجنوب والشمال والبقاع ومن بيروت أيضاً. وقفنا معهم. ساندونا هم بدل أن نساندهم نحن. أقوياء هم كثيراً. والدا أحمد قعدان كانا أول الواصلين. هما يسكنان في الطريق الجديدة. الأم الثكلى لا تزال غير قادرة على الكلام. عشرون شهراً وما زال الجرح في صدرها نازفاً. أحمد كان وحيدها بين ثلاث بنات. هو كان السند والإبن والروح. تُمسك أم أحمد صورة جديدة كبيرة طُبعت له وتلصقها على فاصل حديدي مكان تلك الصورة التي محتها عوامل الطبيعة. تلصقها وتعود لتتحسّسها. تلمس العينين ثم الفم فالأنف فالجبين وهي تذرف الدمع. يركض المصورون في اتجاهها لالتقاط الدمعة فتمسحها وتدير ظهرها إلى كل شيء، إلى كل كل شيء، ولا تبالي إلا بوحيدها الذي انفجر دماغه يوم التفجير.
للحزن أجنحة
وصل والد ألكسندرا. وصلت شقيقة نجيب حتي. وصل والد جواد أجود شيا. وصل خال الياس خوري. وصل شقيق جو نون وليام… كلهم يحملون صور ضحاياهم ويلصقونها فوق الأسماء. نساء كثيرات إنضممنَ إلى الأهالي. فتاة يابانية إقتربت تسأل عن الصور وأدمعت حين عرفت أصحابها. الأهالي باتوا أهالي لبعضهم البعض أيضاً. باتوا كما العائلة الواحدة التي يحمل أفرادها الهمّ الواحد.
بصدقٍ، ليس سهلاً أبداً الوقوف بين هؤلاء. فحزنهم ليس له أجنحة تساعد على أن يطير بعيداً عنهم مع مرور الزمن. بالعكس، كل ساعة ويوم وشهر وسنة يُصبح حزنهم أشدّ. تصل والدة الياس خوري. يا لحزنها! يا لحزن جميعهم! ننظر بتمعن إلى أم الياس فنرى كثيراً من الهدوء في قسماتها. ننظر أكثر فندرك أنها من المؤمنين بأن الغضب والدموع والحزن هي أسلحة المستسلمين. وقضية الياس وألكسندرا ونجيب وجو ورالف وأحمد وعلي وشربل… لا ينفع معها إستسلام. في جوار تمثال المغترب رُفعت اليافطات: «لن ننسى ولن نسامح»، «حصانتكم ساقطة»، «منظومة النيترات ساقطة»، «وراءكم حتى العدالة» و»لبنان لم لا ولن يحكمه إصبع»… الأهالي يقولون كلمتهم. والد أحمد قعدان رأيناه متكئاً على جدار، ممسكاً وجه فلذة كبده، المؤطر بالأسود. هو يتحدث عن يد الدولة الأشبه بأيدي الأخطبوط، تلعب بالناس كما يحلو لها، وهو ما فعلته في شرذمة أهالي ضحايا التفجير. هي تعتمد مقولة: فرّق تسد. إنها عصابة، نرفع إحدى يديها فتنزل ألف يد. لكننا لن نستسلم. لن نبيع أولادنا. نريد الحق.
بيروت يا بيروت. ندور فيها فنشعر بوجعها. بيروت غاضبة. إنها ملتحفة بالسواد، بالعتمة، بالحيرة. بيروت لا تزال تزنّر نفسها، بعد عشرين شهراً، بسور فولاذي. وما زالت بيوت كثيرة فيها مشلعة. الأمهات يتكئن على بعضهن البعض. كلهنّ اليوم في صوم، مسيحيات ومسلمات. لا زينة لرمضان في الأرجاء. لا زينة في بيوتات كثيرة من زمان وزمان. تبدلت الحياة كثيراً وما زال الفاسدون يعيثون فساداً. نمشي نحو الجميزة. أهالي الضحايا يمشون وهم يرفعون صور أولاد وأهالٍ وأقارب وأحباب. يرفعون أيديهم إلى فوق بلا تعب. الشمس حارقة والرياح العاتية الخمسينية تضاعف حرّ نيسان. نمرّ من أمام مقهى ومخبز «شي بول» في الجميزة. نتابع نحو الداخل. نمرّ من تحت نزل الأدباء للمنامة. زبائن النزل المسنون يلوّحون من الشرفات. أهالي الجميزة وزوّارها يلوّحون باليدين. والأهالي يتابعون طريقهم بلا وهن.
إنضموا إلينا
شحّاذ جالس مع كرتونته على الطريق يهتف: «الله معكم الله معكم». تسأله شابة بيروتية مذهولة: «شو في؟». يجيبها: «الثورة عادت… عادت الثورة». يتدخل شاب مصحّحاً: «إنهم أهالي ضحايا المرفأ». يخرج كل روّاد مقاهي الجميزة إلى الطرقات. يبدو الجميع وكأنهم في توق إلى التعبير. إنها لحظة أهالي تفجير 4 آب. هم يستمدّون من تحركات كهذه قوّة الصمود. إنهم بحاجة إلى مساندة الناس لهم كي يصمدوا. نسمعهم ينادون السكان الواقفين على الشرفات: «يلي واقف عل البلكون شرّف إمشي معنا». أغنية لبيروت من قلبي سلام لبيروت، وقُبلٌ للبحر والبيوت، لصخرة وكأنها وجه بحار قديم… تصدح. كل ما نراه يوحي بتلك اللحظة التي حصلت في الرابع من آب ذاك. بلدية بيروت تخبر عبر ملصقات: بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، عبر برنامج دعم المجتمع المحلي، تمّ تصليح وتأهيل الإنارة في الشوارع المتضررة. ويليام نون راح يهتف: «قوموا انزلوا يا شعب انزلوا طالبوا معنا بالعدالة. انزلوا معنا على الأقل مرة في الشهر. ما رح نحقق العدالة إلا إذا تكاتفنا سوا. نحن أهالي الضحايا وإنتو أهالي البيوت المدمرة. ما رح نحقق العدالة إلا إيد بإيد».
ننظر حولنا. عبارات كثيرة على الجدران: قاوم. Revolution. وأحدهم غارق في الحبّ كتب مقاومة من نوع آخر: everything is fine when you’re mine. نتابع مع أهالي الضحايا في قلب بيروت، في الجميزة، في مار مخايل، في الصيفي، وصولاً إلى الكرنتينا. هناك معرض للصور اسمه: من تحت الردم. بيروت أصبحت راكدة على شلال من دماء ودمار. والدة إحدى الضحايا تنادي إمرأة واقفة على الشرفة: «مدام تفضلي انزلي. إذا ما انتفضتي اليوم رح تخسري بيروت ولبنان والمستقبل. شرفي طالبي معنا بالعدالة». أطفال رفعوا على الشرفات الأعلام اللبنانية وراحوا يرفرفون بها كثيراً. تعبير رائع. إمرأة تصوّر بهاتفها الخلوي حراك الأهالي نادتها أخت ضحية: «مدام نحن لسنا مسرحية تصورينها نحن بحاجة إليك لنعيد الروح إلى بيروت». Join us. هو مطلب أهالي ضحايا 4 آب.
«لنردّ الروح لبيروت». يافطة باسم المرشح عن المقعد الأرثوذكسي في بيروت الأولى غسان حاصباني. نصل إلى مار مخايل. شركة الكهرباء لا تزال تحت أنقاض تفجير بيروت. ننزل في المفرق المحاذي. هنا منزل الياس الخوري. نقف. نصلي. نصفق مع الأهالي ونقف دقيقة صمت. صوره على الشرفة التي توفي وهو واقف عليها. نتابع نحو المفرق المحاذي. هنا توفي أحمد قعدان. نقف أيضاً دقيقة صمت. نتوجه نحو كنيسة مار مطانيوس البدواني. نسمع من يهتف: «ليش ما حدا بيسترجي يقول كان في طيارات لحظة الإنفجار؟ ليش؟». ومن هتف بذلك تابع عبر مكبر الصوت: «بدنا العدالة والمحاسبة ولن نقبل بديلاً عن القاضي طارق بيطار». نتمهل قليلاً لنقف دقيقة صمت أمام منزل روان ميستو. تنهار والدتها وتقع أرضاً فتهرع نحوها كل الأمهات ويمنحن بدموعهن القوة فتعود أم روان وتقف من جديد ويتابع الجميع الجولة على بيروت الحزينة. فتيات وشبان مثل «طرابين الحبق» ماتوا ذاك النهار. نتابع نحو شارع باستور منطقة الرميل 72 شارع 11 ونقرأ على يافطة: سوا منعمر. في هذا الشارع ثلاثة أصيبوا، إثنان منهم فقدا الذراعين والثالث مات. يخبر الأهالي بذلك. فلكل شارع قصة وفي كل مبنى مأساة. ووراء كل تلك المقاهي التي تعجّ ليلاً بالساهرين بيوت ستواصل حزنها.
من جديد ترتفع الأناشيد بصوت فيروز: أطفأت مدينتي قنديلها، أغلقت بابها، أصبحت في المساء وحدها.
تمثال المغترب واقف قبالة المرفأ. اللبنانيون جميعاً باتوا مشاريع مغتربين. والأهراءات المهشّمة واقفة قبالته. وجود تلك الأهراءات، الشاهدة على تلك اللحظة، حاجة إلى الأهالي. ونسمعهم ينذرون من يتجرّأ عليها. نقف قبالتها، ننظر يميناً ويساراً، نرى الأمهات منهكات مكسورات يجلسن على الأرصفة ويبكين. كل واحدة ابنها في حضنها. وعلى جدار كبير نقرأ: «ثورة لآخر نفس». نعود لننظر في عيون الأهالي. تُرى هل ستتحقق العدالة ذات يوم في بلد راكد على فساد؟ نتركهم يضيئون الشموع ويصلون مسلمين ومسيحيين.
في المقلب الآخر، وفي دقيقة وضع الشموع نفسها، كان المرشح غسان حاصباني يعلن برنامجه الإنتخابي من مبنى يطل أيضاً على الأهراءات. هو قصد ذلك ليقول إن قيامة بيروت لا ولن تكون إلا بتحقيق العدالة. العدالة هي المدخل إلى قيامة بيروت وكل لبنان. فبرفقة العدالة نجتاز كل الأزمات والعالم وبرفقة الظلم لن نعبر حتى عتبة البيت. فهل ستحقق؟ ما هو أكيد أن صلوات الأمهات لن تذهب، عاجلاً أم آجلاً، سدى.