كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
في الانتخابات، العين دائماً على الدوائر ذات الغالبية المسيحية. ففيها تدور عادةً أشرس المعارك، ومن خلالها تُقرأ النتائج الحقيقية ويُقاس مقدار التغيير. فما طبيعة هذا التنوّع السياسي عند المسيحيين؟ هل هو نعمةٌ أم نقمة؟ وهل يُفترض إنهاء هذا التعدُّد لمصلحة أحاديةٍ حزبية أو ثنائية، ليتوازى المسيحيون مع الطوائف الأخرى (قبل اعتكاف الحريري)، أم يجدر تشجيعه ليصبح نموذجاً يقتدي به الآخرون؟
بالتأكيد، هناك تحوُّلات عميقة في مزاج الناخب المسيحي، واللبناني عموماً، نتيجة الأحداث التي تعصف بالبلد منذ ثلاثة أعوام، أي منذ أن وقع الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي. والناخب المسيحي الذي سيقف أمام صندوقة الاقتراع في 15 أيار، ليس هو نفسه الذي اقترع في 2018 أو في أي جولة انتخابات سابقة.
هذا الناخب- كما كل الناخبين في كل الطوائف- جائعٌ وموجوع وقلِق وغاضب، أو مصاب بالإحباط، وفي داخله مقدار من الحقد غير مسبوق. وهو آتٍ من فشل «الانتفاضة» أو «الثورة»، ومن إحباط في الإصلاح المالي والإداري والسياسي إلى الإحباط القضائي في كل الملفات… وفي مقدّمها كارثة المرفأ. وربما، جُلُّ ما يتمناه هذا الناخب هو الحصول على تأشيرة وإقامة في بلدٍ «طبيعي» له ولأولاده.
والمهزلة- المأساة أنّ هذا الناخب يعرف تماماً مَن هم المسؤولون عن الكارثة. وهو يراهم ويسمعهم كل لحظة، يملأون الشاشات بوعودهم التي يعرف أنّها خادعة. وهو بالتأكيد يريد «الانتقام» منهم واقتلاعهم في صندوقة الاقتراع. ولكن، هل يساعده قانون الانتخاب الذي وضعته منظومة السلطة على قياسها، وهل يستطيع مقاومة إمكاناتها أو إغراءاتها، وهو في أحلك أيامه؟
الخبراء في شؤون الانتخابات يقولون إنّ هذا الشعور بعدم القدرة على تحقيق التغيير في الانتخابات، ربما يدفع الكثير من الناخبين إلى الاعتكاف والمقاطعة من باب الاستسلام للواقع. لكنه يدفع آخرين إلى خوض غمار التجربة والتحدّي.
ويعتقد هؤلاء أنّ الغالبية الصامتة لو ذهبت إلى صناديق الاقتراع وأثبتت حضورها لكانت قادرة على تحقيق التوازن مع قوى السلطة، بل ترجيح الكفّة. وهذا هو التحدّي الأول الذي يواجهه الناخب المسيحي: التخلّي عن نهج المقاطعة واستعادة الثقة بالقدرة على تحقيق التغيير في صناديق الاقتراع.
وصحيح أنّ الوضع الشيعي محسوم سلفاً لمصلحة «الثنائي»، لظروف معروفة، لكن هناك فرصاً لإحداث تغييرات في التمثيل السنّي والمسيحي والدرزي. ويمكن للناخب المسيحي أن يختار بين مروحة واسعة: من أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة إلى قوى الاعتراض و»الثورة» والمجتمع المدني. وفي الحسابات الانتخابية، سيتوزَّع الناخبون المسيحيون على هذه المروحة كالآتي:
-1 القوى الحزبية من داخل السلطة، وتحديداً «التيار الوطني الحر» الذي يسعى جاهداً لئلا يدفع ثمن الفشل الذي يعصف بالعهد. وهو ينطلق من إحصاءات وتقارير تلقّاها على مدى العامين الأخيرين وتؤشّر إلى تراجعٍ مرتقب في حجم كتلته النيابية.
وفيما اضطر «التيار» إلى الرضوخ لمنطق المصالحات الانتخابية مع الرئيس نبيه بري في بعبدا، بوساطة من «حزب الله»، فهو يعيش وضعية إرباك من جزين وزحلة إلى المتن وكسروان- جبيل. لكن هاجسه الأول هو الحفاظ على ماء الوجه في انتخابات الشمال الثانية، ليبقى لرئيسه النائب جبران باسيل ما يكفي من رصيد للقول أنا المسيحي الأقوى والأجدر بالوراثة في بعبدا.
-2 القوى الحزبية المعارضة، ولاسيما «القوات اللبنانية» التي تطمح إلى الفوز بما سيخسره «التيار» من رصيد ومقاعد. وهي تركّز على زحلة وبيروت الأولى ودوائر الجبل والشمال الثانية، وتطمح إلى تحقيق خرق في جزين، بالمقعد الكاثوليكي إذا استطاعت، وللمرة الأولى.
-3 قوى المجتمع المدني و»الثورة» التي لا حظّ لها في الحصول على مكسب في الدوائر الشيعية، وستحاول الاستعاضة في البيئتين السنّية والمسيحية. لكن مشكلة هذه القوى تكمن في تشرذمها، بحيث يصعب على غالبيتها الساحقة أن تحقّق الحاصل الانتخابي.
كما أنّ بعضها أظهر سلوكاً بعيداً عن الشعارات التي رفعها، ما يدفع إلى طرح السؤال: هل إنّ هذا البعض يمثّل في الواقع «أحصنة طروادة» التي دفعتها السلطة إلى داخل معسكر «الثورة» والمجتمع المدني لإرباكه وإحباطه؟
-4 القوى السياسية المستقلة التي تشكّل حالة خاصة وسط معسكري السلطة والمعارضة. فإذا كان الناخب المسيحي محبطاً بما أوصلته إليه السلطة من كوارث، ومحبطاً بسلوك «الثوار» وقوى المجتمع المدني وشعاراتها، فهو قد يجد في بعض القوى المستقلة نموذجاً أكثر اطمئناناً، خصوصاً إذا كان قد اختبر علاقته بها.
وهذه القوى لا تطرح الشعارات غالباً، لكنها عملياً تقف مع الناس. وبعضها يتمتع بحضور يصعب تجاوزه وشعبياً في بعض الدوائر، كما هي الوضعية السياسية لميشال المر في المتن. وللتذكير، في دورة 2018، تمكّن ميشال المرّ (الجدّ) من تسجيل انتصار على ماكينة «التيار» المدعومة بالمال والأجهزة، وبالتحالف مع الطاشناق أيضاً.
إذاً، على مساحة الدوائر ذات الغالبية المسيحية، هناك استحقاق إثبات الحضور السياسي، بين مروحة القوى السياسية والحزبية والشعبية. وسيكون البقاء فيها للأقوى. لكن المؤكّد هو أنّ الغالبية المسيحية الصامتة تستطيع إحداث التغيير بمجرَّد انخراطها في المعركة الانتخابية.
ولذلك، سيكون التحدّي الوحيد الباقي لإحداث تغيير في استحقاق 15 أيار هو أن تنزل الغالبية الصامتة إلى ساحة المعركة وتمنح أصواتها لمن يستحق. فبإمكانها أن تجرِّب ما دامت كل أبوابها الأخرى قد أُقفِلت. وفي أي حال، لم يبقَ لها شيء كي تخسره!