Site icon IMLebanon

قاضية لبنانية “تنشر” رئيس الحكومة وزملاءها على “برج ايفيل”

كتب فارس خشان في “النهار العربي”:

لم يسبق أن حوّل قاض لبناني وليمة عشاءً أُقيمت على شرفه إلى ندوة مفتوحة، كما فعلت، أوّل من أمس النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان غادة عون، في مطعم لبناني لا يبعد عن “برج إيفيل” الشهير أكثر من ثلاثمائة متر.

عموماً، يلتزم القضاة، في أيّ موقع كانوا بواجب التحفّظ، وهم إذا قرّروا الكلام في موضوع محدّد، يستأذنون رؤساءهم، لكنّ القاضية عون، ومنذ أن جمّد رئيس الجمهورية ميشال عون الذي تعرّف إليها عندما كانت عضواً في محكمة الجنايات في بيروت التي برّأته، في لحظة سياسية “متّفق عليها”، من التهم المسوقة ضدّه، باتت تنبذ الإلتزام بسلوك “الصامت الأكبر”.

ولكنّ هذه المدّعية العامة، في وليمة العشاء الباريسية التي أتت في إطار برنامج أوصلها إلى إحدى قاعات مجلس الشيوخ الفرنسي، نظّمه لها ثري لبناني مرشّح للإنتخابات النيابية، نافست نفسها.

سابقاً، كانت تتحدّث أمام الكاميرات التي تواكب “مداهماتها” عن موضوع محدّد يقع ضمن صلاحياتها. هذه المرّة، لم تترك موضوعاً “من نِعَمِها”، فتولّت الدعاية الإنتخابية وسمّت للناخبين القوى التي يجب أن يختاروا منها تلك التي سوف يقترعون لها، و”فضحت” رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ساخرة من قرار أصدره القاضي شربل أبو سمرا مَنَع بموجبه المحاكمة عنه في الادعاء الذي كانت قد نظّمته ضدّه، ونالت من رئيس الحكومة السابق سليم الحص على اعتبار أنّ لديه “واسطة قوية” أدخلته الى المستشفى فـ “شو ع َبالو هيدا”، وتطاولت على زملاء لها لأنّهم لا يسيرون وفق ادّعاءاتها “المثبتة بالأدلة”، ولم تنسَ أن تنقضّ على رئيسها الحالي، وهو المدّعي العام التمييزي غسّان عويدات “الذي أوقفني عن العمل مرّتين”، شاكية من أنّ “يداً وحدها لا تُصفّق”، ناعية القضاء الذي تنتمي إليه ، عن سابق تصوّر وتصميم، “فهو ليس حرّاً”، وحقّرت ثلاثة أشخاص بالإسم على غرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا والمديرة العامة في الدولة اللبنانية هدى سلّوم، على الرغم من المبدأ القضائي العالمي حيث “كلّ متهم بريء حتى تثبت إدانته”، ولم تنسَ أن “تفش” خلقها بأحد الزملاء الإعلاميين بالحديث عن شقيقه الذي قالت إنه كان، “من دون أن يضرب ضربة” يتقاضى 12 ألف دولار أميركي من صندوق كازينو لبنان.

باختصار، لم تترك النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان “ستراً مغطّى”، عمّا وافقت على وصفه بأنّه فعلاً “مغارة علي بابا”.

في دولة القانون، يُعتبر ما أقدمت عليه القاضي غادة عون جرماً جزائياً لا بدّ من محاكمة مرتكبه، وخرقاً لموجبات الوظيفة يقتضي الملاحقة المسلكية الفورية، ولكنّ لبنان، ومنذ مدّة، ترسّخ في مراتب متقدّمة في قائمة “الدول الفاشلة”، وتكرّس كياناً فوضوياً لا ترعاه القواعد والمبادئ والدستور، حيث “الفاجر يأكل مال التاجر”، و “القوي يقتل الأضعف” و” كل ديك على مزبلته صيّاح”.

ولأنّ لبنان أصبح كذلك، فإنّ شيئاً لا يحول دون أن تُقدِم القاضية عون على ما أقدمت عليه، فهي “دخلت السوق” مثلها مثل الآخرين، واقتحمت ميدان “فش خلق” المستمعين، وأدمنت تصفيق هؤلاء الذين ينسبون الى عدد محدود من الأشخاص المصائب الكبيرة التي ألمّت بهم وبذويهم وبسائر الشعب اللبناني.

في المبدأ والممارسة، ما أقدمت عليه القاضية عون في العشاء الباريسي فضيحة من شأنها أن تضمّها الى قائمة الفاسدين في لبنان، إنطلاقاً من أنّ للفساد وجوهاً كثيرة تبدأ باستغلال الوظيفة، وتمر بخرق القواعد المسلكية وتصل الى هدر المال العام وسرقته واختلاسه.

والغالبية العظمى من قضاة لبنان يلتزمون بهذا المبدأ، فلم يتعرّض قاض لما تعرّض له المحقق العدلي في ملف مرفأ بيروت طارق البيطار، وما كان قد تعرّض له سلفه فادي صوّان، ناهيك عن الهجومات التي تستهدف بين الحين والآخر رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود والنائب العام التمييزي غسان عويدات وآخرين، ولكنّ هؤلاء لم ينبسوا، إلّا في حالات استثنائية جداً، ببنت شفة.

وعلى الرغم من ذلك، إنّ تقييم ما أقدمت عليه القاضية عون ليس مسألة صحافية أو تحليلية، بل مسألة سلطوية وقانونية وقضائية، وهذا يعني أنّ مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي والنائب العام التمييزي ووزير العدل ومجلس الوزراء ومن استهدفتهم بالإسم، في حال لم يجدوا أنّ هناك ما يستدعي التحرّك ضدّها، تكون عون قد حقّقت إنجازاً، بحيث فضحت بعض من يجب فضحهم، وأعطت الرأي العام مادة دسمة قد تعينه على إنارة الطريق أمام خياراته الانتخابية والسياسية، وفتحت الطريق أمام قضاة آخرين ليحذوا حذوها.

في أسبقياتي الصحافية، أجريتُ قبل سنوات مقابلة صحافية مع قاض كبير كان قد أحيل، لتوّه، على التّقاعد فهاجم السلطات السياسية وعدداً من القضاة. عندما جرى توزيع الصحيفة وفي متنها هذه المقابلة، تحرّكت السلطات المعنية، فوراً، فإذا بالقاضي يسارع الى الدفاع عن نفسه بتوجيه تهمتين إليّ: الأولى أنّني أسكرتُه، والثانية أنّني وضعتُ في فمه كلمات لم يقلها.

وقبل أن أرد مدافعاً عن نفسي “مستنجداً” بالتسجيل الكامل للمقابلة الذي بحوزتي، اتّصل بي، طالباً منّي أن أخدمه بالصمت على اتّهامه الظالم لي، لأنّ مجلس القضاء الأعلى سوف يحرمه، في حال لم أفعل، من لقب “الشرف”.

لم أتردّد في تقديم هذه الخدمة لذاك القاضي، ليس خوفاً ممّن أصبح خارج إطار الخدمة الفعلية، بل احتراماً لسلطة كان الإنتماء إليها، ولو بعد الخروج منها، شرفاً يخسره من يصنّف نفسه كما لو كان “الأجرأ” و”الأنظف” و”الأطهر” فيما الآخرون “ما بخلّوه”، لأنّهم “جبناء” و”ملطّخون” و”فاسدون”.

إنّ ما فعلته القاضية عون، بغض النظر عن “الكلام الكبير” الذي يمكن أن يُحكى عن منظّمي جولتها الباريسية، يحتاج الى جواب شاف من المرجعيات المعنية التي إن صمتت أدانت نفسها وإن تحرّكت سمحت بالتمييز بين “الغثّ والسمين”، في بلد طالما شكا من أنّ النفايات المتراكمة والمجارير المتفلّتة لا تتوقف عن تلويث مياهه العذبة!

تحت “برج إيفيل”، انقسم من عرفوا بما نطقت به القاضية عون الى فئتين: واحدة اعتبرته “غثّاً” وثانية اعتبرته “ثميناً”.

المراقبون لم ينضمّوا الى أيّ من هاتين الفئتين، لأنّ هناك مرجعيات يفترض أن تملك كلمة الفصل، فلسان عون قد يكون قد نطق ب”الغثّ” إن تحرّكت هذه المرجعيات وفق نصوص قانونية واضحة، وقد يكون لسانها قد قدّم “السمين” إن تصرّفت هذه المرجعيات، كما لو كانت مجرّد نسخة بشرية عن تمثال “أبي الهول” الحجري!