كتب هادي الأمين في “أساس ميديا”:
“غير مطابقة للمواصفات”، هكذا أتت نتيجة فحص عيّنة قمح معدّة للاستهلاك البشري أجرته مختبرات مصلحة الأبحاث العلمية في وزارة الزراعة. هذه النتيجة التي أثبتت وجود تكتّل وتعفّن في الشحنة المستوردة من أوكرانيا لمصلحة “شركة التاج اللبنانية”، هي لفحص أُجرِي في 7 آذار الماضي. ولم تكن الوحيدة التي أكّدت أنّ القمح غير صالح للاستعمال البشري. إذ سُحبت عيّنة ثانية وأرسلت من جديد إلى مصلحة البحوث العلمية الزراعية، التي عادت وأكّدت في 18 آذار ما تأكّد في الفحص الأوّل، وهو أنّ الشحنة غير مطابقة لمواصفات القرار رقم 502/1 وتفصيلاته في القرار رقم 747/1. وهما قراران صدرا عام 2010 ويتعلّقان بإخضاع القمح المستورَد المعدّ للاستهلاك البشري للفحوص المخبرية.
ينصّ القراران على وجوب أن تكون حبوب القمح ذات رائحة طبيعية وخالية تماماً من التكتّل والتعفّن، والتفحّم القزم، والتفحّم الجزئي، ويجب أن تكون الإرسالية خالية من الكتل الفحمية كتلك الناجمة عن التفحّم الشائع على القمح. ويجب أيضاً ألّا تتجاوز نسبة فطر المهماز. هذه الشروط غير المتوافرة في هذه الشحنة، استدعت إبلاغ وزير الزراعة عباس الحاج حسن كما تجري العادة في حالات مماثلة لمنع إدخالها إلى السوق اللبناني وعدم تعريض الأمن الصحي في لبنان للخطر. وعليه مُنعت الشركة من التصرّف بالقمح وبيعه في السوق المحلي، ووضعت إدارة الجمارك رصاصاً على صوامع الشركة.
اعتراض وزير الزراعة
إلا أنّ الحاج حسن، وخلافاً للعادة، وفي زمن شحّ القمح في البلاد من جرّاء الحرب الروسية في أوكرانيا، وحفاظاً على الأمن الغذائي، ولن نقول “الحفاظ على مصلحة التجّار”، وخلافاً لِما هو متعارف عليه وما هو معتمَد، طلب في 24 آذار إعادة إجراء الفحص المخبري للشحنة، فجاءت النتيجة إيجابية ومطابقة للمواصفات. وهو أمر أرضى، وفق معلومات “أساس”، وزير الاقتصاد أمين سلام، وزميله الحاج حسن، اللذين سعيا إلى إدخال الشحنة للذرائع نفسها. لكن تبيّن أنّ هذه النتيجة كانت لعيّنات أخرى، وتبيّن وجود تلاعب بالأختام التي وضعتها إدارة الجمارك على الصوامع التابعة للشركة.
وصلت الشحنة، التي تزن أكثر من 5,836 كيلوغراماً، إلى لبنان في 2 شباط على متن باخرة m/v keleu Ana المبحرة من أوكرانيا. التي أفرغت حمولتها في صوامع القمح التابعة لشركة التاج، التي يملكها بول منصور وشريك سوري له يحمل الجنسية اللبنانية. وقد ثبت، بحسب وثيقة تحمل دمغة “سرّيّ للغاية” صادرة في 17 آذار عن وزير الداخلية القاضي بسام المولوي، الذي تدخّل فور علمه بالأمر، أنّ “منصور يستغلّ الوضع الراهن في لبنان والحرب في أوكرانيا، ويعمل على تزوير نتيجة التحاليل بهدف الاستفادة المادّيّة غير آبهٍ بسلامة الغذاء، فحاول ثلاث مرّات تغيير نتيجة التحاليل، لكنّه لم يُفلح، وقد حوّل الملفّ إلى وزارة الزراعة”.
تحرّك القضاء
حرّك الكتاب السرّيّ الصادر عن وزارة الداخلية النيابة العامّة في جبل لبنان ممثّلة بالقاضي شادي الفرزلي، الذي طلب تأليف لجنة لتسلّم العيّنات والمقارنة بين النتائج، وهو ما بلّغه رئيس مصلحة البحث والتدريب في إدارة الجمارك المؤهّل عجّاج ياسين لإدارة مصلحة الأبحاث العلمية في 28 آذار. على أن يكون أعضاء اللجنة وفق القرار: جرجس برباري المدير العامّ لمكتب الحبوب والشمندر السكّري، وميشال افرام رئيس مصلحة الأبحاث العلمية، وشربل الحاج. وأعطى القاضي الفرزلي إشارته للكشف على الأختام.
في 2 نيسان الجاري توجّهت اللجنة بحضور ممثّلين عن الشركة إلى مكان الشحنة، وتبيّن لها وفق المحضر المنظّم الذي يحمل تواقيع أعضائها، حصول تلاعب بالأختام من خلال قطع الحبل وإعادة وصله.
استدعت هذه النتائج توضيحاً من رئيس مصلحة الأبحاث العلمية في وزارة الزراعة ميشال افرام الذي أكّد في بيان أصدره أنّ “عمل المختبرات لم يتغيّر منذ سنوات، لكنّ المشكلة تكمن في شراء القمح وجلبه إلى لبنان، ولا علاقة للمختبرات في أخذ العيّنة ونقلها، لذا لا يمكن تحميل المختبرات أيّ مسؤولية عن نقص القمح في الأسواق اللبنانية، لأنّ المستوردين ووزارة الاقتصاد ومكتب الحبوب والشمندر السكّري يعرفون أنّ المختبرات تتصرّف على أساس علمي فقط”، لافتاً إلى أنّه “قانوناً أو علمياً لا يمكن السماح بدخول قمح غير مطابق للمواصفات لحلّ مشكلة النقص في هذه المادّة”.
جاء كلام افرام، الذي رفض إدخال الشحنة، مكمّلاً للوثيقة السرّيّة الصادرة عن وزارة الداخلية.
لا أزمة قمح
وقد أشارت مصادر متابعة لملفّ القمح في لبنان، في حديث لـ”أساس”، إلى أن “لا أزمة قمح كما يُشاع، ويُرتقَب وصول شحنات في الأيام المقبلة”. وهو ما يضع علامات استفهام عن إصرار البعض، وعلى رأسهم وزيرا الزراعة والاقتصاد، على إدخال الشحنة، التي تأكّد التلاعب بأختامها في محضر قضائي، بعدما بيّن فحصان عدم صلاحيّتها، ثمّ تبدّلت النتيجة في الفحص الثالث، الذي وصفته المصادر بأنّه إكسترا.
اليوم بات الملف في عهدة النائب العامّ الاستئنافي في جبل لبنان ميشال الفرزلي، الذي وضع يده على الشحنة، وأعطى إشارته بحجزها إلى حين استكمال التحقيقات، في حين يسعى التجّار ومَن خلفهم إلى وضع اللبنانيين بين خيارين: إمّا الجوع أو القمح المتعفّن غير الصالح للاستهلاك البشري.